دار الباي: محاولة إنقاذ متأخّرة

06 اغسطس 2018
(دار الباي في حمام الأنف، 2012، تصوير: الشاذلي الماموغلي)
+ الخط -

يُعدّ القصر، الذي يُعرف أيضاً باسم "دار الباي"، أحدَ أبرز المعالم التي بُنيت في تونس خلال فترة الحكم الحسيني التي امتدّت بين 1705 و1957، وتميّزت في بداياتها بتطوّرٍ في مجال العمران؛ حيث أولى الحسينيّون، الذين اتّخذوا من "قصر باردو" في العاصمة مقرّاً لحكمهم، اهتماماً خاصّاً بالقصور والمنشآت المعمارية.

تعود أصول البايات الحسينيّين إلى مدينة كريت في اليونان. وبدأ عهدهُم بحكم الحسين بن علي الذي كان قائداً لفرقة الخيّالة في الجيش العثماني، قبل أن يستقلّ بالحكم. لكن خلافاتٍ عائلية أدّت إلى وقوعٍ اضطرابات وأعمال عنفٍ عُرفت بـ"الحرب الأهلية التونسية" (1728 - 1756)، وانتهت إلى تدخّل دايات الجزائر الذين فرضوا وصايةً على البلاد، قبل أن تستعيد الأسرة سيطرتها تدريجياً على الوضع، إلى أن أصبحت تونس دولةً كاملة السيادة عام 1807، خلال حكم حمّودة باشا بن علي، الذي اعتُبرت فترته عصراً ذهبياً للأسرة.

انتهى حُكم الحسينيّين بعد فترةٍ وجيزة من استقلال تونس عام 1956؛ حيثُ أعلن "المجلس القومي التأسيسي" إنهاء النظام الملكي وقيام الجمهورية سنة 1957، بعد أن تداوَل 19 باياً على حكم البلاد، آخرهم الأمين باي، بين 1943 و1957. ومنذ ذلك التاريخ، جرى استبدال تسمية "الباي" بـ "رئيس البيت الملكي"، وهو المنصب الذي تولّاه عشرة أفراد من العائلة الحسينية، آخرهم محمد الحبيب باي، من 2013 إلى اليوم.

يبلغ عدد القصور الحسينية قرابة 500 قصرٍ اندثر معظمها ولم يتبقّ منها، اليوم، سوى مئة قصرٍ يُعاني عددٌ كبير منها من الإهمال، ويتطلّب تدخّلاً عاجلاً لترميمه، وهو ما ينطبق أيضا على كثيرٍ من المعالم الأثرية التونسية التي يُناهز عددها أربعين ألف معلم.

وتذكر المصادر التاريخية أن "القصر الحسيني" في حمّام الأنف شُيّد سنة 1750 بأمرٍ من الباي حسين بن علي باشا الذي قادته رحلةٌ استجمامية إلى جبل بوقرنين؛ على مقربةٍ من المياه الحرارية. وظلّ هذا الجناح مقرّاً لعطلته الشتوية كلّ سنة. وإضافةً إلى طرازه المعماري البديع، يتميّز بكونه القصر الملكي الوحيد في العالم الذي بُنيَ فوق حّمامٍ من المياه المعدنية.

خلال فترة "الحماية" الفرنسية، شهدت "دار الباي" محطّاتٍ بارزة؛ حيثُ احتضنت عدداً من لقاءات زعماء الحركة الوطنية، كما شهدت اعتقال المنصف باي (1881 - 1948) الذي تولّى الحكم بين 1942 و1943؛ إذ عمدت السلطات الفرنسية إلى عزله ونفيه.

بعد الاستقلال، آلت الحصّة الكبرى من ملكية القصر إلى الدولة، فيما يُعدّ جزءٌ صغير منه ملكيةً مشاعة. ومنذ ذلك الحين، لم يُخصَّص المبنى لأيّة هيئة إدارية، على عكس قصورٍ أخرى تحوّلت إلى مبانٍ رسمية؛ مثل "باردو" الذي أصبح مقرّاً للبرلمان. بدا هذا الإهمال ضمن أجندة وضعها النظام بعد الاستقلال لتهميش التاريخ الحسيني، وهو ما جعل القصر عرضةً للاستيلاء؛ حيثُ شغله مواطنون غير ما مرّة.

في بداية الثمانينيات، احتلّته عائلاتٌ "معوزة"، جرى ترحيل عددٍ منها سنة 1986 بعد منحها سكناتٍ اجتماعية، وتأخّر ترحيل البقيّة حتى 2008. غير أن بقاءه فارغاً ومن دون حماية، دفع عائلاتٍ أُخرى إلى احتلاله بعد ثورة 2011؛ حيثُ سكنته قرابة 94 عائلة قامت باستغلاله بشكل عشوائي، وحوّلته إلى مجرّد تجمّعٍ سكّاني، ضاربةً أبعاده المعمارية والتاريخية والتراثية عرض الحائط.

هكذا، طاولت القصرَ تحويراتٌ جوهرية من داخله وخارجه، بفعل أشغال الصيانة التي أجراها السكّان؛ مثل وضع دهانات وبناء جدران وإدخال تقسيمات عليه من الداخل، وإنشاء مطابخ وحمّامات، من دون مراعاة وضعه الاستثنائي؛ كونه معلماً أثريّاً يتطلّب أيُّ تدخّل ترميمي، مهما كان بسيطاً، إشرافاً من مختصّين في ترميم المعالم الأثرية.

هذا الوضع جعل المبنى عرضةً للتصدّعات التي أفقدته معالمه التراثية والجمالية، فضلاً عن التبعات التي يُسبّبها تماس الأسلاك الكهربائية وقنوات المياه؛ فخلال تلك الفترة، تدخّل رجال المطافئ، غير ما مرّة، لإخماد النيران التي كانت تندلع بين جنباته. كما تدخّلت قوّات الأمن لإخلائه من ساكنيه في 2012. ورغم أنهم يحتلّونه بصورةٍ غير قانونية، لم تنجح محاولة الإخلاء.

وبعد أن منحت الدولة، في نهاية 2016، ساكنيه "الجدد" مهلة بضعة أسابيع لمغادرته، ظلّ تطبيق القرار يتأجّل كلّ مرّة، إلى أن أعلنت، قبل أيّام، مجدّداً عن الشروع في إخلائه" قريباً"، ووضعه تحت تصرّف وزارة الثقافة التي ذكرت مصادر إعلامية أنها طلبت، منذ 2010، من وزارة أملاك الدولة والشؤون العقّارية التنازل لها عن ملكية المبنى، حتّى تتمكّن من ترميمه.

ورغم تقدّم مستثمرين بطلبات للاستثمار في المبنى، قصد تحويله إلى فضاء ثقافي وسياحي، إلّا أن وضعه ظلّ يراوح مكانه؛ فلا يزال أيُّ توجّه إلى ترميمه يصطدم بعقبتَين أساسيّتين؛ تتمثّل الأولى في رفض شاغلي المبنى مغادرته، ما يحول دون إعداد دراسةٍ علمية دقيقةٍ حول وضعه، والثانية اتّسام ملكيته بالتعقيد، ما يُصعّب من مهمّة تحديد مالكيه والمتصرّفين فيه بشكلٍ دقيق.

ما يحدث داخل قصر الباي في حمّام الأنف، وحوله، ليس سوى عيّنة من وضع عام يعيشه التراث المعماري في تونس. فحتى لو لم يجر السطو على هذه المباني، فإنها لا تجد العناية الكافية التي لا تتطلّب مبادرات رسمية فحسب، إذ يتطلّب الأمر قبل ذلك استعداداً جماعياً، فما وصل إليه القصر الحسيني هو نتيجة حتمية لـ"حصار" طويل في مدن تتعرّض إلى انفجار ديمغرافي وترييف متواصل.

هكذا، يُصبح من الطبيعي أن تغرق المباني التراثية في محيطها، وإذا حظيت باهتمام، فإنها ستكون مثل جسد ميّت تُسعفه العناية الطبية بأيام إضافية في الحياة لا غير.

المساهمون