في خضم الجدل الذي أثارته قضية "الدفاتر السوداء" حول العلاقة بين نظرية مارتن هيدغر (1889 - 1976) في تاريخ الكون ومواقفه السلبية حيال الثقافة اليهودية، صدر مؤخّراً "هيدغر، بلاد الإغريق، والمصير الأوروبي" عن "مركز الأبحاث في الفلسفة الألمانية والمعاصرة" (CREPHAC).
هو كتاب جماعي يضم مجموعة محاضرات ألقيت هي سياق مؤتمر يحمل العنوان نفسه، اخترنا أن نتوقف عند ثلاث منها نظراً إلى أهمية موضوعاتها.
المحاضرة الأولى ألقاها جاكوب روغوزينسكي (Rogozinski) تحت عنوان "هيدغر وخرافة العودة إلى الإغريق"، ويعتبر فيها أن الفيلسوف الألماني، في تأويله للنصوص الإغريقية، يكرر بالضبط ما يعيبه على هيغل، ويسقط طروحاته الفلسفية الخاصة على الإغريق جاعلاً من فكرهم تمهيداً لفلسفته.
وفقاً لهيدغر، خبر الإغريق حقيقة الكون، لكنهم لم يعرفوا كيف يفكرونها. هذه الحقيقة تبدّت لهم لفترة وجيزة جداً، قبل أن تحتجب وتتوارى، تبعاً لطبيعتها نفسها، وراء أفق الكائن الذي أضاءته وكشفته، وهذا الانكشاف ـ الاحتجاب سيحدد كل الوجهة اللاحقة للتاريخ الأوروبي.
لا يجب فهم هذا النسيان كواقعة تاريخية كما لو كان الأمر يتعلّق بحقيقة كائنة. الكون ينكشف باحتجابه بالذات، وهذا الانكشاف ـ الاحتجاب هو قدر لا مناص منه. فهو، على نحو مشابه للوحي والخطيئة الأصلية في العقيدة المسيحية، ينبع من طبيعة الكون نفسها، ولا يد لشعب الكون المختار فيه.
يحدد هيدغر نقطة الانعطاف عند أفلاطون الذي، وفقاً إليه، فهم الحقيقة بوصفها تطابقاً (بين نظرة الروح والفكرة المثال) وانحرف بذلك عن الفهم الإغريقي الأصلي لها بوصفها إماطة اللثام عما هو محتجب.
لتدعيم طرحه، يشير روغوزينسكي أولاً إلى الطابع الانتقائي لاهتمام هيدغر بالفكر الإغريقي، فهو لم يعر أي انتباه جدي لفلاسفة إغريق أساسيين مثل دمقريطس وأمبدقليس وغيرهم، ثم يعدد المغالطات العديدة التي اكتشفها الفيلولوجيون في ترجمات وتأويلات هيدغر للنصوص الإغريقية، ما اضطر هذا الأخير إلى التراجع عن نظرية الانعطاف الأفلاطوني والاعتراف بأن الإغريق كانوا، حتى في أيام هوميروس، يفهمون الحقيقة بوصفها تطابقاً.
المحاضرة الثانية ألقاها غونتر فيغال (Figal) بعنوان "القول المكرَّر(Tautophasis)، هيدغر وبرمنيدس" ويقدّم فيها قراءة نقدية للنتاج المتأخر لهيدغر الثاني (أي هيدغر بعد تخلّيه عن مشروع إعادة تأسيس الأنطولوجيا الذي استهله في "الكون والزمان") حول الفكر و"فيمياء" اللاظاهر.
يعتبر هيدغر الثاني أن الكون يُفكَّر أولاً من خلال فعل الحضور. على غرار الحاضر، الماضي والمستقبل هما كذلك نمطان ماهويان من الحضور، ولا يجب أن يُفكَّر هذا الأخير كحالة ما هو حاضر، بل كفعل الانبساط في الحضور (بمعنى بسط أو فتح ما هو مطوي)، الإتيان إلى الحضور أو الدخول في الحضور. وكما أنه لا يمكننا القول عن فعل الحضور إنه يحضر بحيث يغدو كائناً حاضراً، لا يمكننا القول إن الكون يكون، بل فقط: ثمة كون.
لكن كيف يمكن تفكير الكون إن كان، وفقاً إلى طبيعته نفسها، يحتجب وراء الكائن الذي يكشفه (وذلك بالضبط لأنه فعل الانكشاف نفسه)؟ القول المفكِّر لا يمكنه أن يشير إلى الكون أو يُظهره، فالإشارة تتطلب أخذ مسافة من المشار إليه، وهذا متعذر في حالة الكون الذي لا ينكشف بسبب قربه المعمي. القول يمكنه فقط أن يسميه، والكون إنما ينكشف فقط في فعل التسمية هذا الذي من خلاله تغدو اللغة ممكنة، بحيث إن فعل التسمية والمسمّى هما هنا شيءٌ واحد.
يعتبر هيدغر أن التفكير وفق هذا النمط من القول لا يمكنه أن يكون إلا تحصيل حاصل، بمعنى أنه يقوم على الإصغاء إلى القول أو الأفهوم، على بسطه، وتحصيل ما هو حاصل فيه وعرض وتكرار ما سبق أن قيل فيه.
أما عن علاقة هذه المقاربة بقصيدة برمنيدس، فهيدغر الأخير يعزل من القصيدة عبارة "الكون يكون" التي تبدو للوهلة الأولى مناقضة لطرحه، ثم يطوّعها مع مقاربته بالترجمة والتأويل (هو يعيد ترجمة فعل "يكون" الإغريقي بالفعل "يكون حاضراً")، كما يعتبر أن وحدة الكون والفكر لدى برمنيدس تحيل إلى وحدة الكون مع القول المفكِّر الذي يسميه.
في مقاربته النقدية، يعتبر فيغال أن هذا الفكر الذي يقوم على استحضار الكون من خلال القول الذي يسميه، لا ينتج عنه إلا القول الناجز الذي يقتصر على بسط وتحصيل مسميات الكون الحاصلة في اللغة، ولا يتيح أي فهم للكائن أو الظاهرة. وللخروج من المأزق الفلسفي الذي تؤدي إليه هذه المقاربة الهيدغرية، يقترح إعادة تأهيل الجدلية.
أما المحاضرة الثالثة، فألقتها آن ميركير (Merker) بعنوان "العدم نفسه يُعدم. إعدامية العدم على مدى الفكر الغربي: برمنيدس، أفلاطون، هيدغر"، وتستكمل فيها "هَيْدَغَرة" نصوص برمنيدس وأفلاطون، وتكشف عن إمكانات تأويلية هيدغرية في هذه النصوص غابت عن هيدغر نفسه.
تنطلق الباحثة من مقولة هيدغر في محاضرة "ما هي الميتافيزيقا؟": "العدم، من حيث إنه ما هو آخر بالنسبة إلى الكائن، هو حجاب الكون"؛ بعد تنبيه القارىء إلى أنها تعتبر التمييز بين العدم واللاكائن غريباً عن اللغة الإغريقية، هي تقترح أن العدم، والكون من ورائه، يحضر في نصوص برمنيدس وأفلاطون كقوة عادمة.
في قصيدة برمنيدس، الإلهة تنهيه عن تفكير اللاكائن، لكنها في الآن ذاته تؤكد أن اللاكائن لا يمكن أن يُقال أو يُفكر. تتساءل ميركير عن معنى هذا النهي عن فعل ما هو محال، وتستنتج أنه يكشف عن ضغط العدم الذي يحضر في القول والفكر من خلال النهي نفسه الذي يرمي إلى إبعاده.
من جهة أخرى، تعتبر أن أفلاطون، في محاورة "السفسطائي"، يُخضع اللوغوس لامتحان اللاكائن، حاملاً إياه على سلوك السبيل الذي ينهى عنه برمنيدس (اللوغوس كان يعني في الأساس القول أو الكلام لدى الإغريق، قبل أن يكتسب معنيي المنطق والعقل). هنا، السؤال عن معنى الكائن هو بالذات الذي يفضي بالمتحاورين إلى موضوع اللاكائن.
بعد تقليب الموضوع على كافة أوجهه، يستنتج المتحاورون أننا "لا نستطيع القول أن اللاكائن يكون، ولا أنه لا يكون"، وهكذا، إلى ما لا نهاية. لا نستطيع أن نقول أي شيء عن اللاكائن دون أن يناقض القول نفسه، لكن اللوغوس يجد نفسه مدفوعاً رغماً عنه إلى اللاكائن ما إن يحاول الإحاطة بماهية الكائن التي يُفترض أنها موضوعه الأول.
تعتبر ميركير أن العدم يظهر هنا داخل اللوغوس كقوة عادمة تقوده إلى التناقض مع نفسه وتعدمه من الداخل بحيث يكتشف القائل أنه في الواقع لا يقول شيئاً، اللا يُقال يحضر داخل القول المنطقي ويحيله إلى أصوات شفهية عديمة المعنى، وذلك ما إن يحاول هذا الأخير سبر غور ماهيته الخاصة.