في فيلم "الكنز" الذي يعرض هذه الأيام، يظهرُ بورتريه لـمحمد علي بابتسامته الخفيفة وعينيه الماكرتين وبالطربوش العثماني، يرتاح على حائط في مكتب ضابط شرطة في عهد الملك فاروق، كانت حركة إخراجية جيدة من قبل كاتب ومخرج الفيلم شريف عرفة؛ أن يتوسّط البورتريه الشرطي والشاب محمد أنور السادات المنخرطين في حوار محتدم عن الوطنية أثناء التخطيط للقيام بثورة ضدّ الملكية.
هذا المشهد كثيراً ما يطالعنا في الأعمال الأدبية والتلفزيونية وأحياناً في الدراسات، إذ تقارن بين حقب الحكم المختلفة، لكن الكاتب الراحل محمد حاكم (1962- 2007) اختار أن يبتعد عن هذا الأسلوب في كتابه "أيام محمد علي.. التمايز الاجتماعي وتوزيع فرص الحياة" الصادر في طبعة جديدة عن دار "ابن رشد"، فقد اشتغل في دراسته بمنهج التشريح والتفكيك المنهجي لما لحق بالريف المصري واعتصاره لصالح الواجهة "المدينة"، فلم يستخدم الكاتب في دراسته أي مصطلحات من قبيل الديمقراطية أو الديكتاتورية، بل اعتمد على الوثائق والإحصائيات والأرقام للتعبير عن غياب العدالة الاجتماعية.
يعد كتاب حاكم هذا، وهو عمله الوحيد، دراسة لافتة في مجال علم الاجتماع التاريخي، ليس فقط لأنه يحلّل ويوثّق الصراع الاجتماعي بين الريف والمدينة في عهد محمد علي، واستحواذ المدينة على فرص الحياة ووسائل الإنتاج من خلال السيطرة على الأراضي الزراعية، بل لأنه أيضاً استكمل الجانب غير المستوفى من الدراسات عن عهد محمد علي - المكرّس كأحد أهم بناة مصر الحديثة ونهضتها - وهو الجانب الذي يشكّك في كينونة هذه النهضة ومدى عدالتها الاجتماعية، إذ تعدّ دراسة حاكم، إلى جانب دراسة خالد فهمي "كل رجال الباشا"، من الأبحاث القليلة التي ساءلت هذا العصر.
خاض حاكم، متقصداً، في دراسة دفاتر الإدارة المالية في العصر العثماني وزمن الحملة الفرنسية وعصر محمد علي؛ تلك الدفاتر غير المنشورة والموزّعة بين "دار الوثائق القومية" و"المخطوطات العمومية"، وهي مراجع رسمية مليئة بآلاف الجداول والبيانات التي توثّق انتقال الحيازات الزراعية من الفلاحين إلى رجال الباشا من الأتراك والألبان، والقوانين التي سحبت الأراضي من الفلاحين على خطوات، وشرعنت تسيّد غيرهم من أثرياء المدينة وأصحاب الولاءات، وكيف انتقلت هذه الحيازات مع تبدّل الولاءات السياسية، وقيمة الأجور البخسة التي كان يتقاضاها الفلاحون نظير تسليم محاصيلهم السنوية.
دراسة حاكم الثرية هذه نتجت عن قراءة وتحليل كل هذه البيانات الرقمية، لتكشف بتعبير صاحبها "قصة حلم المحرومين من الملكية في التحوّل إلى مُلاك"، ورصدها المنهجي لعملية الاستحواذ على الريف، وتركز هذا الاستحواذ، ونسبة سيطرة المدينة على عملية الإنتاج الريفي. لم يكن من السهل التوصل إلى هذا الرصد والدقة، من خلال قراءة وتحليل هذا العدد الكبير من البيانات والأرقام، إلا مع اعتماد نمط قراءة واعٍ وعميق لفحوى هذه الأرقام.
اعتماد حاكم على نمط قراءة، يسميه ألتوسير القراءة الفلسفية العرضية - غير البريئة - "قراءة تبحث في لا وعي الخطاب، في صمته وتناقضاته، قراءة تفكيكية منتجة باختصار"، يهدف بشكل كبير إلى جعل مكبوت النص غير المفكر فيه "لا شعور النص" بحسب تعبير ألتوسير أيضاً؛ مرئياً من خلال إعادة تأويل التأويل المتضمن في الدليل (الخطاب والبيانات).
خلصت الدراسة في قراءتها في "ديوان الجفالك" على سبيل المثال إلى أن دولة محمد علي قامت بنزع الحيازة الأثرية للأراضي الزراعية من الفلاحين وحوّلتها إلى ملكية خاصة لعناصر مدينية، في الوقت الذي حوّلت حائزيها الريفيين من حائزين أثريين ذوي حقوق إلى معدمين؛ أي مجرد قوة عمل ملحقة لأرض أو منفصلة عنها، ليتحوّل شكل المدينة في عهده إلى أحياء مليئة بالقصور والسرايات مبنية على الطراز الرومي لسكنى محمد علي وأفراد أسرته وكبار حاشيته وزيادة عدد الجوامع لتأكيد الطابع الإسلامي العثماني، حيث بلغ عدد الجوامع 264 جامعاً و225 زاوية و294 ضريحاً و18 تكية و80 مولداً و24 سكة و16 فرع سكك و19 طريقاً. كذلك خلصت قراءة حاكم في سجلات تعداد النفوس إلى أن دولة محمد علي اعترفت بالتمايزات القائمة على أساس المهنة والسن والنوع والمواطنة في امتلاك الأراضي الزراعية، وتدشين حق الملكية الخاصة لصالح بعض "الذوات" من الطبقة الحاكمة.
واعتبر الكاتب أن وجود فئة "الفلاحين البطالين" دليل على تزايد أعداد الفلاحين غير العاملين، نظراً إلى فقدان كثيرين حيازتهم الزراعية. كما شاعت حالة عرفت باسم "التسحب من القرية" وهي هروب الفلاحين من قراهم نظرًا إلى تراكم المتأخرات الضريبية أو عدم قدرتهم على زراعة المحاصيل. في هذه الحالة اعتُبرت أراضيهم "رمية" يحق للدولة الاستيلاء عليها ومنحها لحائزين آخرين، فبحسب ما ذكر في وثيقة "محفظة الفلاح" من خلال خطاب ناظر الترسانات فإن الضرائب التي فُرضت على الفلاحين كانت لا تعني سوى "المضي قدماً في طريق هلاك الفلاحين".
وكلما كانت القرى قريبة من النيل وعلى درجة عالية من الخصوبة كانت أكثر عرضة لجشع الملاك المدينيين لإجبار الفلاحين على مغادرتها، وكأننا أمام نوع من العبودية، قائم على التمييز الاجتماعي وسيطرة رأس المال.
استدل حاكم أيضاً بعدد من الخطابات التي وجّهها محمد علي لمديري المحافظات الزراعية على النبرة السلطوية الواضحة تجاه الفلاحين والمشايخ من ملاك الأراضي، والتي لم تخلُ من تهديد يصيب صلب الشرف باعتبار الفلاحين ما هم إلا خدم لدى الدولة وملّاك أراضيها الأثرياء، ففي ديوان "الأوامر العلية" في "دار المحفوظات" يقول محمد علي في خطابه؛ "يأمر محمد علي مدير بني سويف باستحضار المشايخ الصغيرة بالقرى وتفهيمهم بأن ولي النعم لا يترك حبة واحدة من الأموال والبقايا المتأخرة المطلوبة منهم، وإن قالوا إن ما هو الضرر الذي يلحقهم يقال لهم ضياع المشيخة من أيديهم ويكونوا هم وعائلتهم بمثابة فلاح عادي وإن أفندينا سيحصل كافة مزروعاتهم في نظير أربعة ريالات ولا يمكنهم إخفاء شيء منه وإلا لا يفيدهم سوى ضياع شرفهم".
يلمس قارئ هذا الكتاب ميول صاحبه اليسارية، وقد يكون من أهم المشاريع التي قام بها شاب يساري كان أحد قادة الحركة الطلابية عام 1984، حيث انهمك بالتنظير للعدالة الاجتماعية في بحث جاد، ينبع من صلب طبيعة الصراع من أجل هذه العدالة ومناقشته من جذوره. وقبل أن يرحل حاكم شاباً بعد صراع مع السرطان، كانت آخر دراساته بحث "الإنترنت وحقوق الإنسان"، وإعداده لمشروع توثيقي عن مسودات الدساتير المصرية.