في كتاب بعنوان "لا يريد أن يكون على حق: لعب فكرية"، يبدو المفكّر الألماني مارتين زيل (1954) وكأنه يتحدّث عن نفسه، فهو لا يريد أن يكون على حق دائماً، على اعتبار أنه لا يريد أن يختزل الفلسفة في الإقناع، فالأمر لا يتعلق هنا بحلبة ملاكمة، ينتصر فيها من يوجّه لخصمه الضربة القاضية.
إن لعبة الأفكار أكثر نبلاً وأكثر متعة. إنها تلك اللعبة التي نلتقيها لدى ميشيل دو مونتاني وفريدريك نيتشه وسورن كيركغارد وكارل كراوس وإيميل سيوران وجاك دريدا. ربما لذلك لا نجد، في رأي الكاتب، "أورثدوكسية مونتانية" (نسبة إلى الكاتب الفرنسي ميشال دو مونتاني، القرن السادس عشر)، وقد كان بإمكانه أن يقول الأمر نفسه عن نيتشه، الذي ظل يحذّرنا من الأتباع. فأكبر جريمة تحيق بالفكرة، أن يتحلّق من حولها أتباع.
إن اللعبة الفكرية، بحسب زيل، لا تطمح إلى حقيقة نهائية ولا ترغب في إلحاق الآخر بنظام الأنا، فلا يجب أن ننسى أن سقراط فهم الفلسفة كحب للحكمة وليس كامتلاك لها، ولربما توجّب علينا أن نكتفي في الفلسفة ـ ولما لا خارجها أيضاً ـ بالحب، الذي طالما افتقدناه في طريقنا إلى الحكمة.
يعرّف قاموس اللغة الألمانية مصطلح "لعبة الأفكار" (Gedankenspiele) بـ "محاولة لصناعة سياقات فكرية، تقوم على اللعب والتجربة، متحررة من كل قاعدة أو التزام". لا يحاول زيل شيئاً آخر في كتابه هذا الصادر عن "منشورات فيشر" (2018). إنه لا يقول شيئاً ضد الفلسفة النسقية، ولكنه يعتقد بأن لمثل هذه الفلسفة الشيء الكثير لتتعلمه، متى وُضعت حقائقها موضع سؤال.
بالنسبة إليه فإن الفلسفة حية حين لا تستسلم لحقيقة، وهي تزداد حيوية كلما انفتحت على الموسيقى والأدب والسينما، ولربما لهذا السبب نجد حضوراً كبيراً لعوالم أدبية وموسيقية وسينمائية في كتابه. فالأدب يفكّر من خلال شخصيات من لحم ودم، وهو ما لا تستطيعه الفلسفة حين تفكّر من خلال مفاهيم موغلة في البرودة. أمّا الموسيقى، وخصوصاً الجاز، فهي تستوعب الارتجال، وهو ما ظلّت الفلسفات تخافه وتنفر منه، وكثيرة هي الأفلام السينمائية التي تقول عن الحياة ما عجزت عنه الفلسفة.
جسّد مارتين زيل ألعابه الفكرية في شذرات، ورغم طرافة ما تطرحه إلّا أنها بدت وكأنها تعوزها تلك القوة والصرامة اللتين تميّز بهما فن الشذرة الألماني الكلاسيكي، سواء الفلسفي منه أو الاجتماعي، كما أنه ينطلق في الأغلب الأعم من نصوص أو شخصيات أو عناوين في كتابة شذراته، فهو ليس ليشتنبيرغ ولا كراوس ولا جون بول، وعلى الرغم من حسّه الموسيقى، لا تشعر به يؤلف شذراته كما يفعل نيتشه، إنه يكتبها فقط. ومع ذلك، لا يخلو الكتاب من لمعات ممتعة.
وهنا ترجمة لعدد من شذرات زيل، أو ألعابه الفكرية كما يحلو له تسميتها:
ليست الألعاب الفكرية بتجارب فكرية؛ فالتجارب الفكرية تخدم توضيح وفحص وتطوّر حجة معيّنة، والأخرى لا تخدم شيئاً.
■
تمنح لعبنا الفكرية لأفكارنا الهاربة لجوءاً مؤقّتاً.
■
يمكن للألعاب أن تبدأ كلّ مرّة من جديد. فاللعبة التي لا تنتهي، ليست بلعبة. إن المعنى، وبغض النظر عن طبيعة اللعبة، لا يكمن في النهاية، بل في البداية، والأمر سيّان بالنسبة إلى الألعاب التنافسية، فمتعتها تكمن في نهايتها غير المعروفة. إن لذة التفكير لا تختلف عن ذلك كثيراً، لكن مع اختلاف صغير: لعبة الأفكار لا يمكن ربحها.
■
ليست هناك أخلاق للتسويغ فقط، ولكن أيضاً أخلاق للتنازل. والاثنان معاً في صراع دائم. تطلب منا أخلاق التسويغ أن نقدّم لأنفسنا ولغيرنا جرد حساب حول آرائنا ونوايانا. وتطلب منا أخلاق التنازل عن التسويغ، في علاقتنا بأنفسنا وبغيرنا، أن نأخذ مسافة من آرائنا ونوايانا.
■
أولئك، ممن أضحوا مرضى بشكل مستمر، سيتحوّل مرضهم إلى مهمة حياتية، بشكل لم يعرفوا لها مثيلاً من قبل. وبدلاً من ائتمان الطبيب على حالتهم، يتحوّلون إلى متخصصين في ألمهم. وفي استكشافهم لمرضهم فقط، يشعرون بالراحة. فليست الحياة ما يهمهم، ولكن الاستمرار في الحياة فحسب. أخيراً، لا عبء يقضّ مضجعهم. ربما هذا العبء الوحيد فقط.
■
الموسيقى: أجمل شكل لانتظار النهاية.
■
"لا تقود كل الانحدارات إلى الأسفل"، يقول بول نيزان.
■
نجد، من بين أنصار الحياة الأبدية، فريقين. الفريق الديني يثق في إيمانه بسلطة عليا، والفريق العلموي يؤمن بالتقنية. وإذا كان الفريق الثاني يخطّط لتخزين الروح، التي ظلت إلى يومنا هذا قابلة للموت، في رقائق إلكترونية من أجل إعادة تجسيدها في الأكوان البعيدة، فإن الأول يختار الطريق القانونية: إنه يسلم مصيره لمحكمة يوم القيامة.
■
"أجهزة الحاسوب لا يمكنها النسيان"، يقول هانس جورج غادامير. لكن ذلك لم يكن مديحاً بمقدرة أجهزة الحاسوب (مثلاً، أنت تتحطّم، كما الأمر معنا أيضاً)، ولكنها لا تستطيع التذكّر، لأنها، وهي في صحة جيدة، يكون كل ما خُزّن فيها جاهزاً.
■
"إنه في حد ذاته تعاسة" يكتب كانط في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق"، كما يضيف: "مفهوم السعادة غير قابل للتعريف، إذ، وعلى الرغم من أن كل إنسان يصبو إليها، إلا أنه لا يستطيع البتة تحديدها، وأن يقول في انسجام مع نفسه، ما الذي يريده ويأمله في الحقيقة". إن هذه الجملة في حد ذاتها مفارقة محضة ("كانط متهكّماً": هذا فصل لم يكتب بعد)، ذلك أنه من الحظ ألا يكون بمقدورنا أن نحدّد مسبقاً ما الذي يمكن أن تكونه سعادتنا وما الذي يمكنها أن تفعله بنا. يتوجّب علينا أن نكون سعداء، لأننا لا نعرف ما الذي "نريده بالفعل"، كما كتب كانط في الموضع نفسه.