في القرن السادس قبل الميلاد، انتشرت في الهند أفكار بوذا القائمة على أن اللذّة هي أصل المعاناة البشرية والزهد والتقشّف هما السلوك القويم، في لحظة عاشت ثقافات عديدة حول العالم الهواجس ذاتها التي تتعلّق بمعنى وجود الإنسان وفنائه، ومنظومة القوانين والأخلاق التي تقود إلى الخير المطلق.
شكّلت الطقوس وسيطاً أساسياً لنقل أفكار الدعوة الجديدة في الشرق، تجسّدت في جملة من المظاهر الأساسية التي تميّز مئات الملايين في قرابة عشرين بلداً آسيوياً، بدءاً من المطبخ واحتفالات رأس السنة والأيام المقدّسة والتقويم والأزياء، وليس انتهاء بالعمارة والفنون والموسيقى.
حتى الثالث والعشرين من الشهر المقبل، يتواصل في "المكتبة البريطانية" بلندن معرض "البوذية"، الذي افتُتح نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، في محاولة لاستكشاف الجذور والفلسفة والأهمية المعاصرة لإحدى الديانات الرئيسية في العالم.
تعرض المكتبة قرابة مئة وعشرين مخطوطة تحتفظ بها منذ مرحلة الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية، والتي تعود لأكثر من ألفَي عام وتُعدّ الأقدم لدى البوذيين، وتمثّل التيارات الثلاثة الرئيسية؛ ماهايانا وتيرافادا وفاغرايانا، وهي انقسامات ظهرت بسبب الاختلاف حول ممارسة الرهبنة، وفي ما بعدُ أصبحت الخلافات متعلّقة بالعقيدة ذاتها، والتي تُرجمت في فترة مبكرة من السنكسريتية إلى لغات آسيوية متعدّدة مثل السنهالية والصينية والتبتية والبالية وغيرها.
تضيء المخطوطات والكتب القديمة على النظرية والممارسة والفن في البوذية؛ مثل "لوتس سوترا" (الدين والإيمان)، و"السوترا الماسية" التي تضمّ أقدم القواعد والنصوص الخاصة بشريعة ماهايانا، و"كتاب الموتى التبتي الذي يصوّر الفناء وما يرافقه من تجارب نفسية وجسدية، إلى جانب أعمال أدبية وروايات تاريخية ونصوص تتّصل بعلم الكونيات، وتطرح أسئلة فلسفية ومعرفية وتاريخية حول معنى أن تكون بوذياً اليوم، وأخرى تتضّمن الاحتفالات والممارسات الشعائرية، وتبحث في أيقونات بوذا.
وتُبرز المعروضات كيف جرى تدوين الكتب المقدّسة على لحاء الأشجار وأوراق النخيل والذهب والفضة والعاج والعديد من المواد الخام من الطبيعة، وكذلك على لفائف الحرير، وتقدّم أيضاً فكرة أوضح حول دورها المحوري في تطوير تقنيات الكتابة والطباعة لنقل الأفكار وتثقيف الناس في جميع أنحاء آسيا، من خلال ورش التعليم في الأديرة، حيث تبلور شكلٌ من أشكال الطباعة في القرن الثامن سابقاً بمئات السنين آلة غوتنبرغ.
كما تطرح كيف تستمر البوذية في إلهام أشكال التعبير الفنية وأساليب الحياة المتنوّعة، وتحوّل النظرة إليها في اللحظة الراهنة، ومنها سلسلة من اللوحات الجدارية التايلاندية التي تصوّر مشاهد حول أسطورة ولادة بوذا، والحكايات المتّصلة برحلاته، وكذلك الأيقونات التي تتّكئ على مفهوم "الكارما" الذي يشكّل جوهر رسالته حول البحث الدائم عن الحقيقة، وأعلام الصلاة ورايات المعابد والفن التعبّدي.
يوضّح المعرض التفاصيل المعقّدة التي رسمها المتعبّدون وصمّموها في نصوصهم الدينية وعلى جدران المعابد، وكيفية تطوّرها مع الزمن عبر تفاعلها مع فنون أخرى في الثقافة الهندية أو الصينية أو الكورية أو اليابانية، وجعلها تختلف عمّا بدأته في الهند.