صدر قديماً: "أليس الصبح؟".. بن عاشور وتطلعات النهضة

12 اغسطس 2017
(محمد الطاهر بن عاشور)
+ الخط -

في صائفة 1907 القائظة، اختار الشيخ الشاب محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973) أن يتفرَّغ لصياغة وصفٍ تحليلي- نقدي لحالة التعليم في العالم الإسلامي، مُنطلقا فيه من وضع الإيالة التونسية، ليشمل سائر المؤسسات التدريسية الكبرى مثل "الأزهر" في القاهرة، و"القرويين" في فاس، وكذلك حوزات العِلم الشرعي في العراق وإيران والهند.

وقد كانت هذه الجامعات العريقة تركز في مقرراتها على العلوم الشرعية واللغوية، وتعيد إنتاج المعارف نفسها، جيلاً بعد جيل. ولذلك عقد المصلح التونسي العزمَ على كتابة تقرير وافٍ عَنْوَنه: "أليس الصبح بقريب؟"، في كِناية بديعة عن الأمل في قرب انبلاج فجر الإصلاح وقدوم أنوار العلم بعد هيمنة الجمود.

وأكَّد أنَّه وضع هذا التأليف "للتفكير في طُرق إصلاح تعليمنا العربي الإسلامي، الذي أشعَرتْني مدةُ مزاولته، مُتعلماً ومعلّماً، بوافر حاجته إلى الإصلاح واسع النطاق، فعقدت عزمي على تحرير كتابٍ في الدعوة إلى ذلك وبَيان أسبابه".

وتعد هذه الدعوة، وهي الأولى في العالم الإسلامي، صدىً مباشراً لتطوُّرَيْن جوهريَّيْن طاولا الثقافة العربية وقتها: فمن جهةٍ أولى، اهترأ نسيج المعارف الدينية التقليدية، فلم تعد تستجيب إلى التطلعات التحرّرية لجيل "النهضة"، ولا سيما بعد انتشار العلوم الوضعية، كما أنها باتت تناقض أدنى بديهيات العقل والذوق، بعد تجاوز الزمن إياها، حتى عُدَّت هي ذاتها سبباً من أسباب تخلف العالم الإسلامي، ومظهراً من مظاهر التراجع الفكري والإنساني فيه، في ظل غلبَة التقليد والاجترار، وغياب روح التجديد والابتكار. ناهيك عن أنَّ مواد البلاغة والتفسير والفقه وحتى الحساب، تُدرَّس، في مطلع القرن العشرين، كما كانت تدرَّسُ في القرون الوسطى، في قطيعة تامةٍ بين نُظُم التعليم وحركية المجتمع المتوثّب إلى "النهوض".

ومن جهة ثانية، كان هذا الكتاب صدىً للحداثة الغربية بعد دخول الاستعمار الفرنسي إلى المشهد العربي عبر حملة نابليون في مصر، واحتلال الجزائر (1831)، وانتصاب "الحماية" في تونس (1881)، والمغرب (1912)، وما تبعه من إنشاء للمدارس والمطابع والاحتكاك الثقافي والتربوي بين حضارتي الإسلام والغَرب، فصار من الصعب الحفاظ على الهيكل التعليمي "السكولاستي" الذي لم يكن ليصمد أمام بداهات العلوم الصحيحة من رياضيات وفيزياء وبيولوجيا...

وإلى ذلك، يضمُّ كتاب "أليس الصبح بقريبٍ؟" مجموعة من الوثائق التاريخية النادرة، التي تتعلق بالمؤسسات التعليمية في تونس خلال الدولة الحفصية (1705-1956)، ومنها نصوص الخُطب التي ألقاها الشيخ سالم بوحاجب (1827-1924) يوم افتتاح جمعية "الخلدونية" (يوم السبت 15 أيار/ مايو 1897)، وتلخيص لخطبة الشيخ محمد عبده (1849-1905)، التي ألقاها في مقر جمعية "الخلدونية" أثناء زيارته إلى تونس سنة 1902، وكذا بيانات الوزراء وأصحاب القَلم الهادفة جميعها إلى إصلاح التعليم في نهايات القرن التاسع عشر.

كما يحتوي هذا الكتاب على قسم "أبستيمولوجي" محضٍ - لا يصرّح باسمه - خصّصه الشيخ ابن عاشور لاستعادة تاريخ العلوم الدينية والدنيوية مثل: علم التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والكلام، والعلوم اللغوية، والمنطق، والتاريخ، إلى جانب العلوم الفلسفية والرياضية... وقد استقصى فيه ظروف نشأتها، ومراحل تطوّرها ووظائفها في إيجاز وتركيزٍ شديديْن.

فلهذا الكتاب إذن قيمة تأريخية كبرى، ليس فقط لأنه يصوّر التحوّلات التي طاولت العلوم وعلاقاتها بمؤسسات التعليم الدينية والزمنية، بل لأنه تضمن إشارات دقيقة إلى تطور المعرفة ومناهجها ومقرراتها في كافة أرجاء العالم الإسلامي، منذ صدر الإسلام إلى زمنه. فهو بمثابة موسوعة مختصرة، ولكن جامعة، تصوِّر وضعية العلوم والتعليم وإشكالاتهما في جرأة نادرة. بل هو من أهم البيانات وأولها التي دعت بقوة إلى تعليم المرأة، وإدماج التعليم "الدنيوي" (أي الوضعي) الشامل للعلوم الصحيحة.

ولئن بدت هذه الدعوة بديهية لقارئ اليوم، فإنها لم تكن كذلك في تلك الحقبة الانتقالية، حيث كانت المطالبة بإدخال هذه المواد العلمية مرادفة للكفر والهرطقة، وكم انتقدَ مَن يُسميهم "الجامدين" هذه الدعوات، واعتبروها تهديماً للرابطة الإسلامية.

"أليس الصبح بقريب؟"، من مؤلفات ابن عاشور الأربعين الذي نقف اليوم (12 آب/ أغسطس) عند ذكرى رحيله، وما يزال الكتاب أرضاً بِكراً ومصدراً مجهولاً، مع أنه يروي لحظة مفصلية في تاريخ الفكر العربي النهضوي، وهو أول تفكير تحليلي في قضايا التربية لإظهار أهميتها في تشكيل وعي حديث، يدخل عَبره العرب إلى التاريخ، ويقطعون مع "قرون الانحطاط". وبعد مرور أزيد من قرن على صياغة هذه الأفكار الإصلاحية، لا تزال بعض مؤسسات التعليم عندنا تجادل اليوم في شرعية تدريس العلوم الطبيعية من عَدمه!

المساهمون