قبل عدّة سنوات، التقت الفنّانة التونسية الشابة لينا بن رجب بالتشكيلي التونسي الرائد الهادي التركي (1922 - 2019)، وتأثّرت بتقنياته وأسلوبه في الرسم، وكانت لديها أسئلة الفنان نفسها من حيث مساءلة تقنية الرسم نفسها وكذلك تفكيكها، مستلهمة الكثير من رؤيته الفنية وألوانه.
في معرضها الجديد الذي يُقام تحت عنوان "التنحي"، وافتتح مؤخراً في "غاليري سلمى فرياني" في تونس العاصمة ويتواصل حتى 15 مارس/ آذار المقبل، نقف أمام سلاسل من اللوحات بعناوين مختلفة؛ هي: "الأيدي الصغيرة"، و"رسومات منزلية"، و"نحن من الأنسجة التي تُصنع منها الأحلام"، و"الجزء المفقود"، و"نسخة للمراجعة".
في المعرض الفردي الثاني لبن رجب، دعوة للمتلقّي لمقاطعة أي نظام أو طريقة أو حتى صورة، وبقيامه بذلك، يدخل في رحلة تُشكّك في جوهر النظام والتقليد، حيث تربط الفنانة بين أشكال مختلفة من الحرف التقليدية والفنون المعاصرة.
تستعمل بن رجب تقنيات التطريز والتصوير الفوتوغرافي والنحت والطباعة، ساعيةً إلى استكشاف العلاقة بين الفنان والآلة، فنجدها في سلسلة "رسومات منزلية" تطرز الأزهار على سطح بالمقلوب لتبدو عكس نمط النسيج المألوف، حيث تدرس نقطة الانطلاق التي يتم فيها تنفيذ الحرفة وهي باطن العمل وليس ظاهره؛ فتقترب من ظهر النسيج بحيث يحجب العمل الصورة الأصل ويُظهر باطنها في وقت واحد.
تربط الفنانة التونسية بين عناصر المواد والحرف والآلة. في سلسلة "الأيدي الصغيرة"، تجرّب ضمن الطباعة على الخشب، وهي صنعة قديمة كانت شائعة في الهند وتقوم على استخدام القطع الخشبية لطباعة الأنماط على المنسوجات، حيث تطبع الأقمشة بتصاميم معقّدة منحوتة في كتلٍ خشبية غُطّيت بالصباغ قبل أن تضغط على سطح النسيج باليد.
يتيح المعرض مساحة للتأمّل في آليات الإنتاج ويتعقب تطوّر الأدوات والحرف والتقاليد، مقابل اختفائها التدريجي وحلول الابتكارات محلّها. تخاطب الأعمال الفنية تاريخ العلاقة بين الفنان والمادة أو الخامة، حيث توظّف الفنانة كلّ الآليات التقليدية في إنتاج عمل فني معاصر يقوم على قاعدة التكرار البصري أو النمط، وهو سنتمترية بصرية تعرفها معظم الحرف اليدوية القديمة وتعتمد عليها جمالياً، فنجدها في الأنسجة والعمارة والخزفيات والموزاييك وغيرها.
يحيل التكرار إلى فكرة القدرة على إعادة الشيء ذاته بالبراعة نفسها، إذ يفترض أن القدرة على فعل ذلك تتطلّب صبراً وبراعة ودقّة كبيرة، من حيث أنه فعل أقرب إلى الاستنساخ، وإن كان الاستنساخ اليومي يحدث برقمية مطلقة، فقد كان الحرفي/ الفنان يقوم به يدوياً، وتحاول بن رجب المقاربة بين العالمين عبر فعل التكرار نفسه، بل إن التكرار هو أكثر من ذلك من حيث أنه مصطلح فلسفي شغل الفلاسفة، من نيتشه إلى دريدا، الذين فكروا فيه كقوة البداية أو البدء من جديد، وهو جوهر العديد من تقنيات الإنتاج الصناعي والفني.