دكّان الحلاقة

17 مايو 2020
(فيكتور رودريغيث نونييث، العربي الجديد)
+ الخط -

158 شارع كاماناريو

بادئ ذي بدءٍ أنْ تَكشِط
كلَّ شيء تراه
الوطن في "الكلابات"
وديكُ المدينة يوقظُ المرور

فيما بعدُ: أنْ تَضرِب بفأسٍ
أصابعَ سافلةً في أصقاع رَطِبة
الأرضيّة الصَلْدة للوطن
تَرفعُها جذور الَمنْغروف

ومِن عَطَشِه للألوان يمتصّ الواقع
ما يتقاضاه عنه الأعمى
بفرشاةٍ من شَعر الخيل

قد يكون جزَيرةً صغيرةً أو امرأة
ولو مارستَ الضغط على الحُلم
دائماً ما ستَحتاج إلى طبَقة ثانية من الدِهان.


■ ■ ■


أصول

ففي النهاية أنا
طيْفُ دُكّان الحِلاقة
المَرايا التي قَضَمَتْها الظِلال
والكَراسي المُفَرَّغةُ أحشاؤُها
شُطبتِ الشبابيك منذ الإعصار الأخير
والحلّاقون يُسرِفون في طَرح الأسئلة
وهم - بأصابعَ صَدِئة - يَقُصّون
لِحَىً عمرُها نِصفُ قرن
تَرهَبني الَمقصّات
أنا ذو الرأس الناشِف
جِئتُ من حُلمٍ آخرَ بدِيَكَة تَصيح
براكون قَاطِعِ طريق
نَظَافة الحمّامات وكلاهما غَرَائبيّ
وإن لم يكن بِقَدر بُركان

فَوْرة بعد فورة تُسَخَّم
وأنا عَلَامةٌ زرقاءُ وسْط الصمت
حشيشٌ قُصَّ لِتوِّه أشجارٌ مُبهرَجَة
عجائب الشكّ
في المرايا هناك مَن يَردّ لي حَملَقَتي
منهوباً من جانبِ الضوْء
إنه مِن معارِفي القُدامى

بُؤْس الهُوّية
زجاجٌ مُلمّع
ونحن واثقون أنّنا غَيْر متساوين
نرتدي قميصاً "كارو"
ونتخبّط نازلين على السلالم
مقلوعةٌ جُذورُنا من جديد
مجذوذٌ شَعرُنا لكونِنا عامِيّين
عاجزين عن مُواءمةِ زماننا ونظْرتِنا إلى العالم
لكوننا لم نَقفِزْ من الشبابيك
أو تَغرَق سُفُننا في سَوائلِ المَشيمة
أو نَزرع شُجَيرات "المارابو"
في الحدائق المتهوّرة للأكاديمية
بلا تعجُّل أجوب هذا العالم
الشاسع دون أن يكون أجنبياً

أتباطأُ في الجليد وعلى كتفي نخلة مَلَكِيّة
أموت ولكنْ يُنعشُني الحنين
الأكثر: لا أدين لأحد بشيء
ليس وطني مختاراتٍ شِعريّة
لا تَنسَ أنّي نشيدٌ حماسيّ
ولا يهُم إلا الصَفَحات التي تُنقَذ
من وسْط اقتصاد بدائيّ

جواب واحد آخرُ لقرار الأُغنية وأكون حُرّاً
يرتجف الحلّاقون
أمام انعدام وزن ذراعي المنمّلة
أرى الرطوبة تحت قُفّازاتهم
وحواجبهم تقوم بعَمَلها المُرهَف
عروقي عميقة
لا شيء يُجري دَمِي.


■ ■ ■


مُنغِّصات

للمطر رُوحُ مَصرَف مياه
والشاحنة الكهرمانيّة
تنفُثُ زَبَدَاً في مرورها
حيث المياهُ الواقِعةُ في شَرّ أعمالِها
تَأْسَن أمام دكّان الحِلاقة
راكبُ درّاجة هائمٌ على وجهه
لا يلُفّه إلا بوليرو

ورغم أن الرَعْدَ يسمّيها باسمها
لا تعبأ التُفّاحة بالمطر
ليس ثَمّ ما ينتظرها حتى تتوقّف
كل شيء يتبع مساره الجاف
لابد أن الجو حارٌّ في هذه القصيدة
كما كان حين أمطرتْ على شارع كامباناريو
ووَثَبَ قوس قُزَح إلى أعلى عن الأسفلت

بتلات صَدِئة
مرايا لم تَعكِس في حياتها نَظْرة
لقد بدأتِ الشمسُ تجمع المقاطعَ اللَفظِيّة
شذرات سَحاب
جِراحٌ زاهِيَة
وهْمٌ غير مُتّزن
تنثُر الساعةُ بُذُورَها

لتَنبُتَ في النَسيم
لا يُحرّكها إلا وِركاكِ
نخلةٌ فوق الجدار
فِراشٌ من الزيزفون
سوف يُزهِر كلُّ شيء
إذا ما نفّذ المطر تهديداتِه
تمرّ الحافلة الصفراء من جديد

الموسيقى عاصفةٌ تُرابيّة
شمسٌ لم يمسَسْها الورنيش
تَضرِب طاولة النجار
والشرطيّ يلمَع في العيون المتطلّعة
من مساكنَ تستعدّ لإيقاع البيمبي
غير أن المطر ينفّذ تهديده
لا تأتي المصائب إلا دفعَةً واحدة
حيث غابةُ الطوب
تقذِف ثديِيّاتها
مِعطَف مطرٍ بَنَفسجي
قد يكون وِساماً
حَرْفاً بخط اليد
يتقاتل الكِبار والصغار فوق غَدير
هو مَجرى صَرْف

وفيما يُعَدّ معجزة ولا شك
على قطعة كرتون
يركَب أحدهم أمواجَ شارع سان لاثارو
إنها اللحظة الوحيدة التي نَعرف فيها
أنّهم سيُقاومون
أطلالَ المستقبل.


■ ■ ■


عقول صائبة أو أنت زوبعة في إبريق شاي

بشمسٍ على اليَد اليُسرى
خَرَقَتْ قِشرةَ السماءِ منذ بُرهة
وخريفٍ يتطفّلُ على النُّخاع
باحثاً عن غنائمَ ما
تؤجّج الموتَ
يَظفُر جَمال الذُّرَة
وأخضرُه المنمّق
تمرّده على الشك
بخيرٍ هي الأجنحةُ
ضمائرُ الغائبين كلُّ هذه الطقطقة
لا أعرف ما الذي أقلقكَ في الشَفَق

هذه السماء المُشَوَّشة تبكي أياً كان
وأنتَ زوْبعة في إبريق شاي
وَتَرٌ لم يُنقَرْ رَشَاشٌ أمين
لهذا آخُذكَ إلى النار
غَيْرَ قادِرٍ على تَهدئة أيِّهما
قَلَقُ الشَفَق مِن أمامكَ
ليستْ هذه هي النُقطةُ التي خلّفتُكَ عندها
يلعَقُكَ الضوء
لا بدايةَ أو نهاية
فقط صفيرٌ
حيث الاستحكام مفضوحاً يَتَجذّر
بلا كلماتٍ وُضعتْ مكانَها نِقاط

يتقدّم وسْط الكلاب التي تَتشمّم شَذَاكَ
أحدُها يَلعَق جراح الخُطوات المُقبِلة
ثمّة خلفيّة رومانسية، كنيسة واقعيّة
أبّاتيّانِ يواجهان الحائط
ومِن عظْمةِ تُرقوةٍ تتدلّى أسمالٌ حمراءُ
يُبصر المؤمنون ذَقنَ المعاد
ونار عبّاد الشمس معاناةٌ
مِن حُرُوق الخريف
نارُ طماطمَ
في فجرٍ ما زال لم يَستوِ

مُشَعشَعة على هذا الشاطئ
الحقيقةُ حَدوةٌ، جانبُ الشمس المظلم
لا يجِدُ ما يريحه على الجانب الآخر
حيث لا شيء يأتي مِن وكل شيء يذهب إلى
شيءٌ بتواضعِ الشهيق
ظِلٌّ على مُستوى الحُمّى تماماً
والريح تُؤدّب البريقَ المُرّ
مَعدِن طيورٍ على وشْك السُّقوط
تشنُّجاتٌ أُعيدَ تديورُها
قَلَق مُمزَّق
كالشَّمَال الصادِق

بِريشةِ ببّغائكَ وفي دفتري الأحمر
لا يتلكّأ المستقبل في يد الموت
بالكادِ لحظةٌ ويتحرّك القَدَر
يمتطي أحدهم الجَمَل ويبتسم لك
يَطلُب الرقْمَ الخطأَ ولا يُنهي المُكالمَة
وعلى الرصيف الآخر يتسوّل مِنك الأُفُقَ
إنه الملاك الذي تنتظره
لقد حَدَثَ للمسافر في خريفه الأول
ليست بَشَرةً ذهبية بالضبط
مع الأبنوس الُمصَدّف
مِثل مَفرَش سَرير حداثيّ

أو وجهٍ بنُدُوبٍ وَدودَةٍ
شامَةٌ ما كبُرتْ أكثَرَ من اللازِم
فقط يَتفتّق لَمسُها عن حِسٍّ
بأنها انعكاسٌ مع قَشعريرة
عارٍ وناكرِ جميلٍ كَوَرْدَة
ومع ذلك إجمَالاً مستريحٌ
من غياب النهاية
فالنُجُوم لا تَعرف الجُحُود
لا خطاباتِ أخرى فقط ترانيمُ عيدِ ميلادٍ
وفي المُثلّث الأحمر النَجم الوحيد
ما لم يبدأْ أبداً يَبلُغ نِهايته المُؤسِفة

حقول القَصَب سَجّادة تكاد أن تكون إيرانية
موَشّاةٌ بنخيل "كاياما"
والبحيرات متوردة بالفقر
و"داريو موموتومبو" في مرآة السيارة
وادي "أبورا" عبر الشبّاك المنمنم
للبيت الغائم
غابات أوريغون
وفي وَسَطِها شاطئ الماء الحُلو
حيث صَهَرتَ كينونتي
بَرَكَةٌ لأولئك الذين أعْمَتْهُم
مُشاهَدَة الخُسُوف

حَمَلٌ عمودٌ خشبيٌّ سكّين
مسافة كِناية
سَرْجٌ شَكيمةٌ لجام
إشاراتُ هُويّة
أُرجوحة حذاء مشمّع لِحاف
استراتيجيّات التعرُّف
دجاجة ميتة ما زالتْ تُحرّك جَناحَيْها
شَقٌّ في المَنظومَة
الوُضوح مجرد نَظرَة مختلسة إلى اللاشيء
قطرةٌ من الغباء كفيلة بعلاجكَ
هكذا يكتَمِل الحَمْد

يُثير المساءُ شيئاً جديداً لو رؤي
من زاوية عيْن إعصارٍ
الأشجارُ مِثلُ فكرة
ترتَجِف أمامَ اللّمسَة الخفيفة
لِريش طائرِ الكاردينال
وقد أحسّتِ السماء بالرعب نَفْسِهِ
الذي قُطّع أربعاً
حيث يَرفع صورتَه الكاردينال
الخارجُ على القانون
يَسقُطُ المَسَاء شيئاً جديداً إنْ لم يكن
مَنسِيّاً والدم يُدوّم في يديكَ
الرجاءُ أن تَظلّ ساكِناً

في المِقعد القُماشيّ قُبالة الموقِد الزائِف
أُضَفّر لك الخطوط المتوازية
لأرى ما إذا كان يُمكن أخيراً
توليفُكَ على العالَم
الحُمّى أُحاديّة القُطْب
تَحتاج ريحاً شَمَالية تُجمِّد قديمكَ
ريحاً جنوبية للسُهاد
مَن يَجمع كلّ هذه القِطع والأجزاء
المصنوعة من خَشَب لا يُقرأ؟
إلى أيّ رَماد تتخلّص مِن هذا المِزاج
سريعِ الاشتعال؟
العامل الذي يبصق في مرورك
النار لا تُعينك على الخُطوط

شَفَةُ المجذوم
الشجرة المصنوعة من أكاليل
هذه اللغةُ العَكِرة
أباغاما أيامَ ذوبان الثلج
دفءٌ ذهبيٌّ أَسكُبه
بينما تَعثُر أحشائي على مكانها
تحت القَمَر الغائب
أيامٌ مُدَخَّنة حين يتفتّح التيوليب
وسْط الجليد المُعانِد
لن يكون ثمّة انقطاع
والفَجْر يَمدّ جذورَه.


ــــــــــــــــــــــــ
كيمياء المعلّم الكوبي
بإسبانيتها المغرقة في المحكي الكوبي، وبنائها المحكم دون أن يكون منطقياً، وتداعياتها الأشبه بالأحلام والهلوسات، تجمع قصائد الشاعر الكوبي فيكتور رودريغث نونيث بين ثلاثة عناصر قد يصعب تصورها مجتمعة.

أوّلاً، هناك رؤية شديدة الواقعية للحياة في أميركا اللاتينية بكل ما فيها من تعقيدات اجتماعية- تاريخية وأوجاع إنسانية- يومية، تعكس حياته بين نيكاراغوا وكولومبيا، فضلاً عن كوبا، قبل أن يستقر معلّم أدب إسباني في كنيون كوليدج بالولايات المتّحدة. ثانياً، هناك وعي مرهف بالعناصر الطبيعية وما يتقاطع من الطبيعة - النبات، الحيوان، المناخ - مع صنائع البشر.

وثالثاً، هناك قدرة فلسفية نادرة في الشعر على تكثيف وتجريد الصورة، بل ومساءلة اللغة بوصفها الأرضية الحقيقة لحركة نص يسعى بلا جدوى إلى تجاوز نفسه ولكنه يبقى، بوصفه لغةً وكما يقول الشاعر "حيث لا شيء يأتي مِن وكل شيء يذهب إلى".

وفي هذه المتتالية المختارة في هذه الصفحة، يبرز دكّان الحلاقة ليس كمكان فقط، وليس كمجاز لعملية الاتصال الإنساني فقط، ولكن أيضاً كمنطلق سردي يتحرّك منه الشاعر الكوبي الأشهر إلى أسئلة متعدّدة ومثيرة حول معنى الذات والرجولة والوطن.


* ترجمة: يوسف رخا

المساهمون