"المخصّص": المعجمية العربية وتسمية العالم

01 سبتمبر 2016
(من قصر الحمراء في غرناطة، تصوير: أنا بلايث)
+ الخط -

اشتغل اللغويُّون العرب القدامى على تنظيم المادة الدلالية، المتفرِّعة عن الجذور الثلاثية التي تجاوز عديدُها الثمانيةَ آلاف وحدة. ولكنَّ أغلبيّتهم الساحقة اعتمدت مبدأ الترتيب الأبجدي، لوعيهم التام أنَّ المعاني لا يمكنها أن تنضبط في أيِّة بنية صارمة، ولا يتيسّرُ ترتيبها إلا حسب أوائل حروف الكلم. وهو ترتيبٌ -على نجاعته ويُسره- يُقصي العَلاقات المنعقدة بين المداخل المعجمية، ويجعل منها مجرَّد وحداتٍ في قوائم مفككة.

الاستثناء الوحيد الذي اخترق المَعاجم القديمة، دون أن تتجاوزه المعاجم الحديثة هو معجم "المُخَصَّص" لابن سِيدَةَ، أبي الحَسن علي بن إسماعيل الأندلسي (1007-1060م). كان هذا اللغوي ضريراً ابنَ ضرير، عَكَف بسمعه وذاكِرَتِه العجيبة على كلام العرب الوسيع، فأخضعه بُرمَّته إلى بنية مَنطقية صارمة. وألَّف معجمه، في سبعةَ عشر جزءاً، ليشمل كل ما نطقت به العرب، قُدَماؤهم والمُولَّدون، إلى غاية العصور الوسطى.

أعرض ابن سيدة عن جمع مفردات اللغة حسب الترتيب الأبجدي الذي سار عليه أسلافه مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي، في "العين"، والجَوهري في "الصِحاح"، وابن فارس في "المقاييس"... بل نظمها حسب مبدأ الحقول الدلالية أي: حَسب مجموعاتٍ دلالية، مقسّمة تقسيماً منطقياً تَخصُّصياً.

فقد رتَّب كلَّ مواد اللغة (أكثر من ثمانين ألف معنًى) حسب ترتّبها الأنطولوجي، وتوزّعها في الوجود المادي، فبدأ بذكر الإنسان وما يتصل به من خصائص، وثنَّى بالحيوان وأنواعه ولوازمه، وأنهى موسوعتَه بالطبيعة وأجزائها وأشيائها. فهذه ثلاثة أبوابٍ كبرى، قسَّمها إلى فصولٍ صغيرة، ينقسم كلُّ فصلٍ منها بدوره إلى فروع أدق، إمعاناً في التقصِّي والشمول، حتى لا تَشذَّ كلمة عن جداوله الصارمة.

تكمن فَرادة هذا العمل في أنَّ ابن سيدةَ طبَّق بنية شكلية دقيقة على مادة ضخمة، لا يربط، ظاهرياً، بين مكوناتها خيطٌ ناظم، فهو عمل رائد من حيث "الحسّ البنيوي" الذي ميَّزه وحكمَ توليد المعرفة لديه.

في حين لم تبلغ البنيوية مرتبة العلمية إلا في بداية القرن العشرين، بعد أن شيَّدها أبو اللسانيات الحديثة فرديناند دي سوسير على أسس صلبة. فقد أخضعَ لغويُّ الأندلس الكفيف الظاهرةَ المعجمية -على ما فيها من زئبقية وتداخل- إلى شبكة من العلاقات الشكلية التي تتحدّد فيها هوية كل مكوّنٍ بما يربطه من علاقات تماثلية (المرادفات) وخلافية (المتضادات) مع الوحدات الأخرى.

وتتجلى ثانياً فرادة هذا المعجم اليتيم في قدرته التقسيمية، فكل حقلٍ دلالي يتفرّع إلى حقولٍ ثانوية، تمرُّ من المطلق العام إلى الجزئي الخاصِّ، أي من المقولات المطلقة كالإنسان والحيوان والطبيعة إلى الخصائص الفرعية كالملبس والمسكن والمَأكل.

وتكمن فذاذة هذا العمل أخيراً في استيعابه جميع كلام العرب، دون استثناء، ضمن دوائر، تنفتح كل واحدة منها على الأخرى ضمن توالدٍ بنيوي صارم. وكان يَعضد ما فيها من المعاني بالشواهد الأدبية الأصيلة، تدليلاً على تجذرها في تراث العربية الأثيل.

على أنَّ السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم يُتجاوز هذا العمل رغم الخطوات الشاسعة التي قطعتها المعجمية العربية؟ لعلَّ بداية التجاوز المعرفي لهذا المَجْمع الفريد تكمن في رقمنة مفرداته كلها، أو بعضها، فيمكن، على سبيل المثال، الشروع بالباب الخاص بالبيوت، وسيظهر وقتها أنَّ مُخصّص ابن سيدة أكثر من مُعجمٍ لغوي.

هو مسحٌ أنثروبولوجي لطرائق تَسمية العربي لعالَمه، وكيفيات استحضاره لأشيائه فيه. مفردات "البيت" تعكس كيف رمَّز أجدادنا لمساكنهم ودَعوها بما أوحت إليهم من دلالات حين سعوا إلى أنسنة الصحراء، ومنا نكتشف كثيراً من مُخبَّآت العرب القدامى في سُكناهم العالم، وقد تُعين المعاصرين على فهم أنماط حضورهم الراهنة في الفضاء.


المساهمون