لا يَعرف كثيرٌ من الجزائريين أن فنّانهم الشهير محمد راسم (1896 - 1975) رحل مقتولاً في ظروف ما يزال الغموض يكتنفها بعد مرور 45 سنة على تلك الجريمة التي رُبطت بسطو على منزله في منطقة الأبيار بالجزائر العاصمة، والتي قُتلت فيها أيضاً زوجتُه السويدية، بينما عدّها بعضُهم اغتيالاً سياسياً. لكن أيةَ فائدة كانت تُرجى من اغتيال فنّان في التاسعة والسبعين من عمره لم تُعرف عنه أية مواقف سياسية راديكالية؟
بعد ثلاث سنوات من مقتلهما، كتبت صحيفة "المجاهد" الحكومية الناطقة باللغة الفرنسية، في عددها الصادر يوم 22 حزيران/ يونيو 1978، أنّ مصالح الأمن "أوقفت أشخاصاً يُشتَبه في تورّطهم في مقتل محمد راسم وزوجته"، مضيفةً أنَّ "السوابق القضائية للمتّهمين تُبيّن أننا أمام قتلة ارتكبوا جريمتهم البشعة مع سبق الإصرار وبدم بارد". غير أنَّ ما لم يتوقّعه أحد هو أن يقضي المتَّهمون ستّ سنوات في الحبس الاحتياطي، ليستفيدوا من البراءة بعد ذلك، ويُطوى ملفّ راسم الذي تبقى قضية مقتله لغزاً، مثل كثير من الألغاز المرتبطة بمثل هذه الجرائم.
في حياته، كما في رحيله، كان محمد راسم - الذي تمرّ اليوم ذكرى ميلاده الرابعة والعشرون بعد المئة - شاغل الناس؛ وهو الذي برع في فنّ "المنمنمات" الذي أخذه من التراث الفارسي والتركي والمغولي، مع إعطائه خصوصيةً جعلته من أبرز الفنّانين في العالم في هذا المجال. تتمثّل تلك الخصوصية في استحضار روح الشرق إلى سياقات الفنّ التشكيلي الحديث، متخلّياً في ذلك عن الطرق التقليدية في رسم المنمنمات لصالح اللوحة الحديثة وفق منظورها الأوروبي الحديث، وكان بذلك يؤسّس لمدرسةٍ مستقلّة خاصّة بالمنمنمات الجزائرية. أضفى راسم طابعاً محليّاً، جزائرياً ومغاربياً، على منمنماته التي كثيراً ما صوّر فيها الأحداث التاريخية والاحتفالات الدينية ومظاهر الحياة اليومية للجزائريّين قبل الاحتلال الفرنسي عام 1830 وبعده.
وليس غريباً أن يبرع الفنّان في مجالٍ كان له فيه من اسم عائلته نصيب؛ فهو مِن أُسرة (تعود أصولها إلى تركيا) برعت في مختلف الفنون؛ إذ كان والده معروفاً بالحفر على النحاس والخشب، واحترف عمُّه النقش على شواهد القبور، بينما كان شقيقه الأكبر، عمر راسم (1884 - 1959) خطّاطاً ورسّاماً، وهو من المؤسّسيين الأوائل للصحافة المكتوبة باللغة العربية في الجزائر.
وحتى لا يكون محمّد راسم، الذي وُلد في حيّ القصبة العريق بالجزائر العاصمة، نسخةً عن غيره من أفراد عائلته الفنّانين، راح منذ طفولته الأولى يبحث عن شخصيته الفنية، فوجدها في التراثَين الفارسي والتركي، ليلقى التشجيع من الرسّام الفرنسي إيتيان دينيه (1861 - 1929) الذي اعتنق الإسلام بعد ذلك وأصبح يُسمّى نصر الدين دينيه؛ حيث كلّفه عام 1914 بإنجاز خمس عشرة صفحة في شكل نقوش قرآنية بالألوان، دمجها في كتابه "حياة محمد رسول الله" الذي كتّبه الفنان الفرنسي بالاشتراك مع صديقه الجزائري سليمان بن إبراهيم.
في عام 1917، أنجز أولى منمنماته بعنوان "حياة شاعر"، وحصل على منحةٍ دراسية إلى إسبانيا التي ستكون حاضرةً في أوّل معرض يُقيمه في الجزائر عام 1919 وقد حمل عنوان "إسبانيا الأندلسية والجزائر القديمة". وابتداءً من سنة 1922، استقرّ في باريس حيثُ عهد إليه الناشر الفرنسي هنري بيازا بتزيين اثني عشر مجلّداً من "ألف ليلة وليلة"، وحاز عام 1924 "وسام مؤسّسة الرسّامين المستشرقين الفرنسيّين"، قبل أن يعود إلى الجزائر عام 1932 ويحوز "الجائزة الفنّية للجزائر" بعد سنةٍ من ذلك، ويبدأ في تدريس فنّ المنمنمات في "مدرسة الفنون الجميلة" بالجزائر العاصمة عام 1934.
شارك راسم في عشرات المعارض الفردية والجماعية في الجزائر وخارجها. وحتى بعد توقّفه عن الرسم عام 1955 بسبب ضعف بصره ثمّ رحيله بعد عشرين سنةً من ذلك، ظلّت أعماله تُعرض في متاحف وصالات عربية وأجنبية في المغرب وتونس ومصر وقطر وفرنسا وبلجيكا والدنمارك ورومانيا والسويد وغيرها، بينما يضمّ "متحف الفنون الجميلة" في الجزائر العاصمة معظم أعماله التي جُمع بعضها في كتابَين صدرا خلال حياته: "الحياة الإسلامية في الماضي" (1960)، و"محمد راسم الجزائري" (1972).