كتابة التاريخ بالخناجر

03 اغسطس 2018
ولاء دكاك/ سورية
+ الخط -

ربما ستكون "داعش" هي المركز الذي سوف يؤرَّخ به للقرن الواحد والعشرين؛ ما قبل داعش وما بعدها. فسياسات الدول، ومزاج الأفراد، وتفكير الأحزاب، ومسار الأيديولوجيات، وتغيّر مسارات السلوك الشخصي، ترتبط في بداية العقد الثاني من القرن الحالي بالموقف من داعش.

وربما استطاعت داعش أن تكون محوراً للتحالفات المعاصرة، وسبباً في انفكاك التعاون، ومصدراً للسياسات، وقالباً ممكناً ومحتملاً لكلّ من يريد التموضع في أي حلف أو مجموعة دولية، أو منصة، أو مؤتمر، أو أي شيء يريده المدبّرون الرعاة.

ولم يحدث في جميع القرون التي مضت أن أجمع العالم كلّه على وحدة الموقف، وأن وجد من الأسباب ما يكفي لجعلها مناسبة للعداء مع أي شخص أو حزب أو دولة أو مجموعة أو أقلية، أو قومية، مثلما هو الأمر في حضور داعش. فداعش حمّالة أوجه، كتاب أو دفتر للمناسبات والاحتياجات.

وقد فُتحت المعاجم والقواميس لدخولهم، وانخرطت الثقافة والمثقّف في المعركة، فصار بالوسع أن يُقال إن الآخر داعشي إذا كان يُخرج فيلماً عن الدجاج الأبيض، أو يُنشد العَتابا التي لا تعبّر عن الحزن المعترف به.

ومخترعو داعش يمكنهم أن يتباهوا بها أمام التاريخ البشري كله، فللمرّة الأولى يُمكّنهم هذا العدو المبتكَر من تأجيل البحث أو النقاش في قضايا العدالة والحرية والديموقراطية والمساواة من دون أن يجرؤ أحد على إيقاظ ما كان يُعرَف بالضمير.

ولم يعد الضمير بوصفه الحارس على الأخلاق نفسه في أزمة، إذ تمّ إسكاته وإرغامه على الصمت في انتظار الانتهاء من مسألة داعش. ولم يعد بوسع أحد مثلاً أن يعترض على أي قصف مجنون مدمّر للمدن كالرقة أو الموصل، ما دام يهدف للقضاء على داعش، وحين يقضى على المدن، بحسب الأجندات المرسومة لاختفاء العدو، يختفي الداعشي. يُقتَل المدنيون ويختفي الداعشيون.

داعش هي الحل لكل من يشاء أن يضع المبادئ والقيم القديمة، أو المستعملة، على الرفّ، في سبيل استيراد ما يريد من القيم والمبادئ الجديدة من أفضل الماركات العالمية المناسبة للعالم الذي انتصرت فيه الرأسمالية، عالم نهاية التاريخ الذي صارت داعش فيه الوسيلة لدى الجميع.

تدخل داعش إلى الأمكنة كي تعيد رسم الكتابة والمعاني والذكريات والتواريخ، فثمّةَ من علّم هؤلاء الذين كانوا حتى يوم أمس يعيشون بيننا، ويمشون في الشوارع التي نمشي فيها، ويشترون الخضروات والفواكه ذاتها، وربما التقى أحدنا بأحدهم وهو ينتظر الحافلة، أو جلس على المقعد نفسه، إنهم خناجر التاريخ الجديد لهذا العالم الذي يجب أن يُكتَب بالدم.

ولأن السوريين هم الذين وقع عليهم الاختيار كي يكونوا موضوع الاختبار، فإن عض الأصابع الإقليمية يحدث هنا، وليَّ الأذرع الدولية يتم هنا، ومعرفة قدرة المتفجّرات على التدمير تُجرَّب هنا، وانتقاء المبادئ وغربلتها يجريان هنا.. وبواسطة الداعشية تُمتَحن الوطنيات، والمعتقدات الدينية، والميول الطائفية، والتعزيزات الأيديولوجية.

والكارثة أن نرى الجميع يتّفقون ضد داعش، ويختلفون على ما تبقى لنا في الأرض السورية من حياة ومن قيم ومن معرفة ومن حب.

المساهمون