فنانون وحمّالون وضحايا من جنوب العالم

06 نوفمبر 2014
تجهيز لـ إبراهيم ماهاما / غانا
+ الخط -

يمكن القول إن الفن الجديد هو القاسم المشترك بين أميركا اللاتينية وأفريقيا في المعرض الذي اختتم أخيراً في "غاليري ساتشي" اللندني. في المقابل، لماذا يبدو مستبعداً أن تجرؤ واحدة من أشهر صالات العرض في العالم، على الجمع بين الفن الجديد في أفريقيا وأوروبا، مثلاً؟ لا بد أن هناك قاسماً مشتركاً آخر.

الأمر ليس معيار "الفن الجديد" وحسب، بل انتماء العالمين لما يسمى بـ"دول العالم الثالث"، ما يجعل من المعرض أكثر جاذبية ومنطقيةً للمتلقي الأوروبي. إنّهم فنانون قادمون من جنوب الأرض التعيس.

أياً كان المعيار للجمع بين هؤلاء، فقد اجتاحت أعمال الفنانين الخمسة عشر المشاركين في معرض "الفن الجديد في أميركا اللاتينية وأفريقيا"، مساحة صالات "ساتشي". هيمنت على المكان أحجام اللوحات الضخمة ومواضيعها المشغولة بالحروب والفقر وعنف الرأسمالية.

أمّا تلك الأعمال ذات الأحجام العادية، فقد وضعت المتلقي أمام متتالية من الاستفزازات البصرية. يرى زائر المعرض مئات الجماجم البشرية وقد تحولت إلى نمل؛ تزحف فوق الجدران والأعمدة. من الطبيعي أن تصيبه القشعريرة لدى مشاهدة التجهيز المباغت للنحات الكولومبي رافاييل غوميثباروس، إذ قام الفنان بصناعة أجساد النمل من جمجمتين بشريتين بقضبان معدنية وأسلاك، بحيث يبلغ حجم كل "نملة" خمسين سنتمتراً.

وقد حرص غوميثباروس على أن تعرض أسراب النمل هذه على المباني التاريخية والمؤسسات الحكومية في بوغوتا، حيث يقيم، مثلما فعل حين تركها تجتاح واجهة البرلمان، الأمر الذي اعتبر مواجهة مع مؤسسةٍ باركت الأفعال العنفيّة لرجال الأمن القومي لعقود.

بالنسبة إلى غوميثباروس (1972)، النمل هو العمّال، وهو الضحايا والمهاجرون. هو آلاف من الكولومبيين الذين عانوا من اللجوء والنزوح الداخلي، ومن القتل بنيران الصراعات المسلّحة والفساد في الخمسين عاماً الأخيرة.

يسمّي غوميثباروس تجهيزه بـ"تم الاستيلاء على المنزل"، في إشارة إلى عنوان قصة قصيرة لخوليو كورتاثار. وإن كان أبطال قصة الكاتب الأرجنتيني هم سكان قصر يرعبهم اجتياح غامض يعلن عن حضوره بأصوات تقترب وتبتعد، فإن مئات الجماجم/النمل هي نوع خاص من الأشباح، ضحايا الحاضر في سرب واحد مع ضحايا الماضي، ألم يقل كورتاثار "إذا لم تدفن البلاد موتاها فإنهم سيعودون دائماً كأشباح في عليّة".

رافاييل غوميثباروس/ كولومبيا



ليس بعيداً عن موضوع غوميثباروس، قدّم إبراهيم ماهاما (غانا) تجهيزاً له طابع مسرحي ضخم. جمع التشكيلي مئات من أكياس الفحم التي حملت على ظهور آلاف العمّال لتلبّي الطلب في أسواق أفريقيا وأوروبا.

فعل ذلك بعد أن أجرى بحثاً استقصائياً حول سوق الفحم في أفريقيا وشروط العمل فيها. وكانت النتيجة هذه الخيمة الضخمة من القنّب والشقاء. في بلاده، عرض ماهاما في مكان أقل أناقة من جدران "ساتشي"؛ مكان بلا ديكور وإضاءة وبلا زوّار بملابس أنيقة؛ عرضَه تحت الشمس على كومة من البضائع بالقرب من أسواق الفحم، وعلى حوامل خشبية في ساحات جرداء إلا من النفايات.

أياً كان المكان، فتجهيز ماهاما، المقيم في العاصمة تامال، ما هو إلا بحث في قيم السوق وأثرها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. الأكياس ملطخة وبعضها ممزق؛ مازالت أسماء التجار والعلامات التجارية واضحة عليها، وكذلك أماكن التحميل والموانئ التي ذهبت إليها مطبوعة على بشرتها المنهكة.

أحياناً يضيف ماهاما (1987) بضع مطرّزات تقليدية أفريقية وصينية، في إشارة إلى حركة السلع في السوق العالمي، وليلفت أيضاً إلى كدّ العمال في معامل الإنتاج الضخمة مقابل أقل الأجور. تشبه هذه الأكياس بطاقات الهوية، أو ألبوم صور شخصية لحمّالي أكياس القنّب، الذين ما زالت ملامحهم مجهولة ولا نرى منها سوى الأثر.

المساهمون