بالكاد يمكن أن نطلق على "مدينة الموتى"، في القاهرة، هذا الاسم دون أن يكون ذلك متضمّناً فيه أنها مدينة الأحياء أيضاً، حيث تمتد سلسلة المقابر في العاصمة المصرية على مساحات تصل شمالها بالجنوب، بين أسفل جبل المقطم وخارج أسوار المدينة التاريخية، وتغطي مساحة تقارب 4 أميال مربعة، وقد بدأت تصبح مكاناً للسكن المرتجل خلال القرن العشرين، وبلغت ذروة السكن فيها خلال الثمانينيات. أما بعد زلزال القاهرة عام 1992، فوفرت المقابر مأوى لمن تشرّدوا وتهدمت بيوتهم.
تعدّ العناية بالمقبرة خصوصية مصرية بارزة، وقد تجلت العلاقة بين القاهرة ومقابرها منذ تأسيس نواتها الأولى، الفسطاط، في القرن السابع الميلادي، وتوالت عليها الخلافات والعهود وتوسعت، وأصبحت موضعاً لأضرحة ومساجد ومدارس بناها حكام، منهم صلاح الدين الأيوبي، ثم دُفن فيها سلاطين المماليك، وهكذا مرت "القرافة" في كل عصر بتغيرات تبعت التقلبات السياسية والاجتماعية والسكانية والاقتصادية.
في سياق العلاقة بين المدينة ومدافنها، نظمت "مؤسسة أركينوس للعمارة"، بثاً مباشراً للقاء مع النحات المصري عمر طوسون، حاورته فيه مديرة المؤسسة أنغيشكا دوبروفولسكا، التي قالت في تقديمها إن استضافة طوسون تأتي بعدما أنجز منحوتة تجسّد العلاقة بين الحياة والموت، مبينة: "نبثّ المحاضرة من مدينة الموتى التي دفن فيها السلاطين وأصحاب المكانة مثلما دفن فيها أناس عاديون، كما أنها موضع الحياة اليومية للناس الذين يعيشون هنا، لذلك فهي أيضاً مكان حيّ. ونحن نقدم هذه المحاضرة في محاولة لاستكشاف العلاقة بين ما هو ميت وما هو حيّ، الضوء والظل، التاريخي والمعاصر، كل هذه المتناقضات التي تلتقي بشكل ما هنا".
المحاضرة انطلقت بفيلم وثائقي قصير أنجزه المخرج أحمد زيدان عن عملية إنجاز المنحوتة، منذ أن كانت فكرة وحتى انتهى منها الفنان الذي يتعامل في تماثيله وأعماله مع خامات الغرانيت والرخام والأحجار العادية، لكنه هذه المرة اشتغل على حجر "الهاشما"، وهو نوع من الحجر الجيري ينتمي إلى طبيعة المكان نفسه، وهو السائد في العمارة الإسلامية في مصر. اختيار الجير كان فكرة دوبروفولسكا، التي توضح أنها اختارت عمداً الحجر نفسه المستخدم في بيوت وأضرحة المكان القديمة، كنوع من تحقيق استمرارية تاريخية وثقافية ومعمارية حيّة.
يُظهر الفيديو عملية استخراج كتلة كبيرة من الحجر الجيري من محاجر "شق التعبان"، ليشتغل عليها الفنان المصري في "القرافة"، وقد عمل في منطقة مليئة بالنقوش على الأحجار، من المساجد إلى الأضرحة والقبور، وتبدو علاقة الحجر بيد الإنسان قديمة وما يفعله طوسون فقط أنه يضيف إليها شيئاً من زمننا.
تجسّد المنحوتة شكل ثقب الباب، الذي وصفه طوسون في المحاضرة بأنه ممر للذاكرة وحامل للأسرار والقصص التي تعود إلى مئات السنين. وبالفعل انتهى العمل من المنحوتة الضخمة التي نقشت بالزخرفة والهندسة الإسلامية، باللونين الأبيض والبيج، أواخر أيار/ مايو الماضي.
وُضع عمل طوسون في ما يعرف بمنطقة السلطان قايتباي، لتكون جزءاً من مشروع "تراث من أجل الأحياء في صحراء المماليك"، والمموّل من الاتحاد الأوروبي ويتم تنفيذه عن طريق مؤسستي "آركينوس" للعمارة و"السلطان" و"مشروع القاهرة التاريخية"، والذي يهدف، بحسب القائمين عليه، إلى جعل الفن والثقافة متاحين وممثلين في المجتمع المحلي في هذه المنطقة من الصحراء.
أنجز طوسون المنحوتة في قلب المكان، بين مارة ينظرون إليه وأناس يطلون من النوافذ يتابعون العمل ويجلبون له الماء ويعرضون عليه المساعدة، أحدهم يراقب من خلف النافذة ويتمنى أن يكون العمل جميلاً، وعلى جدار قريب أم كلثوم مرسومة بالغرافيتي، وفي القرافة نساء يزرن قبور من فقدن من أحبائهن؛ إنها حالة شديدة الخصوصية من مجاورة الأحياء للأموات ينفرد بها المجتمع المصري.