ضمن جولة في العالم العربي، زار المخرج الفرنسي ميشال غوندري مؤخراً مدينة رام الله الفلسطينية لعرض فيلمه الوثائقي الأخير "هل الرجل الطويل سعيد؟". وقد برز اسم غوندري على الساحة العالمية عندما حصل على جائزة أوسكار أفضل سيناريو عن "إشراقة أبدية لعقل نظيف" عام 2005.
فيلم "هل الرجل الطويل سعيد؟" هو من الرسم الغرافيكي المتحرك الذي استخدمه المخرج كوسيلة تعبير بصري عن مقابلة أجراها مع المفكر واللغوي الأميركي نعوم تشومسكي. ورغم أن الهدف من الفيلم الذي يدوم ساعتين هو عرض الأفكار المبتكرة لتشومسكي في علوم اللغة والمنطق، إلا أن الحوار يحدده غوندري منذ البداية باهتماماته وأسئلته، ثم ينقله عن طريق الغرافيك بدلاً من الطريقة التقليدية في إجراء المقابلات. وفي هذا السياق، لا يرى المُشاهد تشومسكي إلا دقائق قليلة داخل الفيلم الذي تطغى عليه الرسوم المتحركة بدلاً من اللقطات المصورة.
من خلال المقابلة، يحاول غوندري الحصول على إجابات عن تساؤلات وضعها مسبقاً، ويتبيّن لنا أن تشومسكي لا ينتقل بحرية وسلاسة من فكرة إلى أخرى، وبالتالي فسيناريو الفيلم وأسلوب الحوار لا يحافظان على ترابط الأفكار. فبدل أن يكون الفيلم رحلة في عقل تشومسكي، نجد أنفسنا أمام لوحة انطباعية رسمها غوندري عن ما يعتقد أنه أهم أفكار تشومسكي وعن نظرته إلى العالم ومفهومه للحياة والموت. وقد يجد المشاهد صعوبة في فهم أسئلة غوندري بسبب ركاكة لغته الإنجليزية التي يصر على استخدامها في حديثه مع المفكّر.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الرسم المستخدم في الفيلم يأخذ طابع فن "السايكيدليك" مع بعض التجديد، ولكنه أيضاً كلاسيكي لاعتماد المخرج فيه على بُعدَين وابتعاده عن الرسوم الثلاثية الأبعاد التي تستخدمها هوليود اليوم في الكثير من إنتاجاتها التي ترتكز على الرسوم المتحركة.
وإلى جانب فلسفة تشومسكي وأعماله، يتطرّق الفيلم إلى حياته الخاصة متوقفاً عند طفولته، وفترة سجنه، ووفاة زوجته، وغيرها من القصص الشخصية، وعند انطباعات بطل الفيلم حولها؛ بدون إهمال الطريقة التي يمضي تشومسكي بها أوقات فراغه، ونظرته إلى السعادة. ونلاحظ هنا محاولة المخرج الواضحة لوضع تصوره الشخصي عن تشومسكي الإنسان الذي يعتقد غوندري أنه مغيّب بسبب آرائه ونشاطاته السياسية المثيرة للجدل.
اعترف غوندري أثناء النقاش الذي دار بعد الفيلم أنه كان يفكر في إطار العقلية الأوروبية التي ينتمي إليها، ولذلك قام بالتركيز على قصة عائلة تشومسكي مع المحرقة النازية، وأهمل كلياً آراءه المعادية لإسرائيل وللعنصرية الصهيونية. وفي المقابل، تناول بسرعة تعاطف تشومسكي مع القضية الكردية في العراق، بدون أي التفاتة إلى انخراطه فكرياً في تحليل الصراع العربي الإسرائيلي.
وخلال النقاش أيضاً، اكتشف الجمهور الذي حضر العرض أن المخرج أخطأ داخل فيلمه باستخدام "الأوم" البوذية والهندوسية ليرمز إلى الإسلام.
باختصار، رغم خياله الواسع ومهارته في طرح الأفكار، حصر غوندري سؤاله، داخل عمله الأخير، في ما إذا كان "الرجل الطويل سعيداً" ضمن إطار العرق الأبيض فقط، ولم يبدُ معنياً بتقديم نظرة شاملة عن خطاب وأفكار نعوم تشومسكي التي تتجاوز المركزية الغربية نحو أمداء إنسانية أوسع.