أمركة مسرح العبث

19 سبتمبر 2016
(ألبي في 1962)
+ الخط -

لم ينفكّ الكاتب المسرحي الأميركي الراحل ليلة الجمعة الفائتة، إدوارد ألبي (1928-2016)، عن الإعلان عن رغبته في مواصلة الهجوم على المعتقدات المريحة السياسية والدينية للفرد في المجتمع في أعماله المسرحية، بل سعى إلى إحداث تلك الصدمة التي تهدف إلى مواجهة بين الإنسان وحقيقته من خلال التركيز على الجوانب غير المكشوفة في شخصيات أعماله، الأمر الذي ظهر جلياً في أكثر من عشرين عملاً مسرحياً.

ولعل بدايات مؤلف مسرحية "أليس الصغيرة" (1964) كانت الأكثر صعوبة في عمر مشواره الذي امتد لأكثر من ستة عقود، لم تكن بالسهولة التي يتوقعها القارئ من الحائز على أهم جوائز المسرح، فقد جوبهت مسيرته في بدايتها بازدراء النقاد.

ازدراء سرعان ما تحوّل إلى نقدٍ قاسٍ تماماً، وُصفت حينها تلك الأعمال، وخصوصاً "قصة حديقة الحيوان" (1959) بأنها معقدة وحادة وعصية على الفهم. يقول فيها: "قل لي يا بيتر: هل هذا المقعد، هذا الحديد وهذا الخشب، هل هذا هو شرفك؟ أهذا هو الشيء الوحيد في الدنيا الذي تقاتل في سبيله؟ أتستطيع أن تفكر في شيء أكثر عبثاً؟".

شيئاً فشيئاً، ومع إنجازه لمسرحيته الأشهر "من يخاف من فيرجينيا وولف؟" وبالرغم من الحذر الشديد إزاءها، نظراً لما احتوته من إشارات حادة، إلا أنها سرعان ما أعلن من خلالها عن شق طريق مسرحي سيضيف إلى المسرح الأميركي الكثير.

تعتبر أعمال ألبي المسرحية انعكاساً لحالة الرفض والسخط على المفاهيم الجديدة التي غزت المجتمع الأميركي في منتصف القرن الماضي والتي تجلّت مظاهرها بتسلل الأشكال التجارية والتصنيع إلى كل مناحي الحياة، أظهرت أعماله الأولى قدرته البارعة على "أمركة" مسرح العبث الذي اشتهر به المسرحيون الأوروبيون كـ جان جينييه وصاموييل بيكيت وأوجين يونسكو، واضعاً بصمته بشكل واضح على مسار تطوّر المسرح في أميركا، وخصوصاً مسرح ما بعد الحرب والتي تجلّت في أعماله "قصة حديقة الحيوان" (1959) و"صندوق الرمل" (1959) و"الحلم الأميركي" (1961) و"من يخاف من فيرجينيا وولف؟" (1962) وغيرها.

وفي سياق ما يمكن وصفه بـ "أمركة" مسرح العبث الأوروبي والذي ذهب به ألبي بعيداً، يمكن الحديث عن الفروق الجوهرية التي اتسمت بها أعماله عن الآباء المؤسسين، صامويل بيكيت وجان جينيه خصوصاً.

ففي الوقت الذي عبّرت شخصيات بيكيت عن عجز اللغة في تحقيق التواصل اللازم بين الناس وخصوصاً في شخصيته التي تجد صعوبة في التواصل، مالت شخصيات ألبي إلى استخدام العبارات الأكثر شيوعاً في سياق مفكّك تشي بأنها قادمة من عالم الأحلام، بل لم تتوقّف ميزة اللغة هذه عند حدود تفكك سياقها، بل اتّسمت أيضاً بالخوف الشديد من المستقبل والعالم المحيط، مُظهرة فشلاً نفسياً في التعبير عن المتغيرات التي تحيط عوالمها، وهي شخصيات، الزوجين وضيوفهم، في مجملها أظهرها وكأنها تلعب لعبة خطرة مع الحياة، قد تدفعها في أي لحظة إلى حافة الجنون.

لم يبتعد في عمله "الحلم الأميركي"، عن مسلسل رصد التحولات القيمية العميقة التي ظهرت، إبان ما أطلق عليه حينها "الحلم الأميركي" كأكبر مشروع استراتيجي يهدف إلى تقديم الأسرة الأمريكية كأسرة نموذجية في سياق معاصر، فأدان من خلالها صراع المظاهر المصطنعة التي وصل إليها المجتمع على حساب القيم الحقيقية التي تم طمسها ضمن دواليب الحداثة والتصنيع والمال.

وهو الأمر الذي عبّر عنه في أكثر من مناسبة بأن الجانب التجاري الذي امتدت يده إلى الأعمال المسرحية أيضاً، أصبح يدمر كل شيء، مبرّراً في ذلك تحكّمه بكل التفاصيل التي تخص أعماله المسرحية ابتداءً من اختياره لممثلي أعماله وانتهاءً بطريقة كتابة اسمه في بداية المسرحية ونهايتها من حيث نوع الخط واللون والظهور، بالإضافة لاعتناءه بأدق تفاصيل مواضع الكلمات، الأمر الذي دفعه للقول لاحقاً: "الجملة المسرحية المحكية التي يستغرق وصفها دقيقة، لا تحتاج لأكثر من دقيقة عرض، هذا هو مداها الحقيقي".

اتسمت مسرحيته "من يخاف فيرجينيا وولف؟" بالألفاظ المقذعة وبالحوارات الحادة التي خاضها الزوجين، بطلي المسرحية، طوال ليلة شرب، موجّهين انتقادات شديدة للثقافة الأميركية الحديثة وعلى رأسها مؤسسات الزواج وأسس التربية والدين وامتيازات الطبقات العليا في المجتمع، لتنهار أحلام الإثنين تماماً بمزيج من السخرية والكوميديا السوداء والخلط بين الواقع والخيال، والذي دفع بالمجلس الاستشاري لجائزة "بوليتزر" في العام 1962 أن ترفض التوصيات، وأن تمتنع عن تقديمها له نظراً لأنها تخدش القيم المعمول بها في المجتمع الأميركي لما تحتويه من إيحاءات جنسية، الأمر الذي دفعه للقول حول ذلك: "أي عمل لا يتمكن من إزعاج شخص واحد على الأقل فهو عمل فاشل".

المساهمون