جرت العادة على أن يتلقف المشتغلون في الفكر العربي مفهوماً أو مصطلحاً من خارج فضاء اللغة العربيَّة، ومن ثم يقومون بترجمته، مضيفين بعض التحويرات لتتناسب مع الفضاء العربي وأغراضهم. تدور بعد ذلك جدالات طويلة وواسعة حول صوابيَّة هذه الترجمة أو تلك، وفي ما إذا كانت تؤدي المعنى المقصود منها "كاملاً" كما تفعل في فضائها الأصلي. يُحتِّمُ ذلك على شطر كبير من الاجتهاد العربي أن يتحرّك في فضاءي الترجمة والمفهوم، عوضاً عن فضاء الإشكال الواقعي، مُخضعةً بذلك الواقع للمفهوم أو بالأحرى لترجمة المفهوم لا العكس، ما يطرح مسألة وجود فلسفة عربيَّة إذ ينتج عن هذ السياق جدل طويل ذو طابعٍ فلسفي حول شكل علاقة اللغة العربيَّة بلغات "نقديَّة" أخرى، ليمتد في بعض الأحيان إلى السؤال عن أهليَّة اللغة العربيَّة في إنتاج المعرفة وصلاحيَّتها من حيث هي لغة لذلك.
يمكن قراءة هذه الأزمة كنتيجة لوجودنا "خارج فضاء اللغة المعياريَّة"، إذ إن الإطار المعياري، الذي يحكم الأدبيات الفكريَّة الغربيَّة، التي يشتبك معها مثقفونا، يتجاهل العديد من المآزق العربيَّة المركزيَّة، مثل خصوصيَّة الكيانات السلطويَّة "الحديثة" في العالم العربي، والإرث الاستعماري لهذه المنطقة، وخصوصيَّة العلاقات الاجتماعيَّة الاقتصاديَّة، أضف إلى ذلك الحضور الدائم للتدخل الأجنبي. إن خصوصيَّة هذا الشرط تجعل من اقتباس "الإطار المعياري" من سياقه الغربي تعمية عن الواقع لا أداة لفهمه.
تحتم علينا هذه الوضعيَّة اللعب دائماً في موقعيَّة ما (دون/فوق) نظريَّة، والحديث عن واقعنا بلغة مضاعفة، بمعنى لغة تتحدث عن خصوصية الوضعيَّة العربيَّة دون أن تعكّر صفتها الفكريَّة. نحاول في هذا المقال الإضاءة على محاولة فكريَّة نجحت إلى حد بعيد في ابتكار هذا النوع من اللغة ولكن لم يكتب لها أن تصبح مشروعاً.
في البدء كانت الممانعة
قبل عقدين ونيف من تشويه نظام الأسد لمصطلح الممانعة، وضع سهيل القش (أستاذ مشارك في الفلسفة بجامعة لافال ــ كندا، وباحث زائر بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة وأستاذ سابق في الجامعة اللبنانية)، كتابه "في البدء كانت الممانعة؛ مقدمة في تأريخ الفكر السياسي العربي" (دار الحداثة، 1980)، وهو عمل ضمَّنه مجموعة من المحاضرات ألقاها بين عامي 1978 و1979.
ينطوي الكتاب على ثلاث مداخلات متمايزة (تأريخيَّة ونظريَّة وعلميَّة)، يجمع بينها خيط رفيع يشدّها جميعاً إلى واقع الأزمة الفكريَّة/العمليَّة لمشروع التحرّر العربي. يحاول في المداخلة الأولى تقديم قراءة لصور تأريخ الفكر السياسي العربي. أما في الثانية، وهي الإسهام الرئيس الذي استوحي منه عنوان الكتاب، فقد استعار القش مصطلح "الممانعة" من المعجم الخلدوني محاولاً مَفهمَتَه ومعيداً توظيفه في بناء جدليَّة المغلوب والغالب، في سبيل بناء نظري يوفِّر أداة تفسيريَّة ومقولة قيميَّة تساعد في قراءة الطبيعة الصراعيَّة للاجتماع البشري. أما المداخلة الثالثة، فكانت محاولة لتجاوز الأدبيات الماركسيَّة في تناولها للمسألة الشرقيَّة وإهمالها للوضعيَّة التاريخيَّة العربيَّة، مما دفعه لصوغ قراءة "ماركسية" جديدة تتلاءم وخصوصيَّة الاجتماع العربي وإرثه التاريخي.
يعرض الكتاب في الفصول الثلاثة الأولى، على نحو طريف، السجالات الفكريَّة السياسية السابقة عليه. وذلك من خلال تحديد كل تيار تأريخي على أساس مبدأ فلسفي ناظم، يستبطنه ذاك التيار ويحكم تصوّره لعلاقة الغالب والمغلوب. مقدّماً قراءة لهذه المواقف الفلسفيَّة بوصفها حواريَّة مضمرة للتيارات الأساسيَّة في التأريخ للفكر السياسي العربي لينخرط، بعد ذلك، في سجال نقدي مع أطراف تيارات الفكر الماركسي في زمنه.
وجاءت هذه التصنيفات على الشكل التالي: الاستشراقي - مثقفي المعاصرة (هيغل، جدلية العبد والسيد) والتصنيف الإسلامي (نيتشه، والفعل مقابل رد الفعل)، والماركسي الذي ينقسم إلى فكر الإنتاج (ماركسي كلاسيكي) وإنتاج الفكر (البنيوي بشقيه الألتوسيري الأرثوذكسي والماوي، ممثلاً بمهدي عامل ووضاح شرارة على الترتيب). وبهذا تُضاف إلى الأهميَّة الفكريَّة للكتاب أُخرى تاريخيَّة، لما يمثله من وثيقة تاريخيَّة يمكن من خلالها قراءة تطوّر السجالات الماركسيَّة العربيَّة عشيَّة سبعينيات القرن الماضي.
من الممانعة إلى المغالبة
بحكم انتماء القش للتقليد الماركسي فإن مهمة تأريخ الفكر وضعته مباشرة أمام أزمة البنى الفوقيَّة، والتي يمكن تتبعها في السياق الماركسي داخل التاريخ النظري لمفهوم الأيديولوجيا. يحاول القش تجاوز الحمولة السلبيَّة للمفهوم في سبيل إعادة استثماره كمقولة تحليليَّة مؤكداً على أهميَّة التحليل التاريخي هنا.
يستعين في ذلك بكتابات أنطونيو غرامشي حول الأيديولوجيا، لا سيما نقده للفصل بين البنى الفوقية والتحتية، وتبعيَّة "الأيديولوجيا" للبنية التحتية وعجزها عن التأثير في البنى الاجتماعيَّة، إذ إن المعتقدات الشعبيَّة، وهي نوع من الأيديولوجيا التاريخيَّة العضويَّة، لا تقل فاعليَّة وأثراً عن البنى الماديَّة، حيث تحتاجها الجماعات البشريَّة في تنظيم حركتها وتقويم أوضاعها. ثم يَمضي المؤلف بعد أن يخلّص الأيديولوجيا من معناها السلبي إلى التأكيد على أهميَّة تاريخيَّة تحليل الأيديولوجيا، مقدماً نقداً مطوَّلاً للتصوّر الألتوسيري للأيديولوجيا؛ الذي يجعل من "البنية" نقطة ارتكازه الأساسيَّة في معالجة المفاهيم الماركسيَّة، ومؤدى ذلك تعطيل مقولة "الصراع الطبقي" وطمس حركة التاريخ، منحازاً، عملياً، إلى معسكر الغالب لا المغلوب.
يخلص القش إلى أن جميع محاولات التأريخ للفكر السياسي العربي انطلقت من نظريات تحاكي موقعيَّة المُتغلب، وذلك من خلال صب جام اهتمامها على "الغلبة" أو السيطرة الطبقيَّة. في حين أن فعل السيطرة يوازيه دائماً فعل "ممانعة"؛ الأشكال العمليَّة والنظريَّة التي يعبّر فيها المغلوب عن عدم رضاه بأيديولوجيا الغالِب، إذ يصوغ المُتغلِّب وفقاً لتلك "الممانعة" أيديولوجيته وسياساته وبها تُرسم حدود سيطرته.
في واقع الأمر، إن الحقل الأيديولوجي لكل من المغلوب والغالب لا يمكن أن يلتقيا، إذ تتحدد "ممانعة" المغلوب وفقاً لتناقض واقعي بين الطرفين، أو فلنقل راديكاليَّة سلبيَّة تجعل الصراع الكلِّي مصيراً تراجيدياً لشكل العلاقة بينهما. في حين يحاول الغالب أن يصوِّر الصراع على شكل اختلاف مرحلي يمكن تسويته، وهو لا يرمي بذلك لطمس الصراع، القائم واقعياً، ولكن طمس طبيعة هذا الصراع العدائيَّة من خلال ضرب من "التعمية الأيديولوجية"، التي تعكف على تشويه جميع أشكال ممانعة المغلوب بوعود وهميَّة بالمساواة خارج العلاقات الفعليَّة، وذلك من خلال تكريس خطاب يحاول تصوير الخلاف القائم على أنه "اختلاف غير جوهري" ويجب النظر إليه من موقعيَّة "الهوية والتماثل الأبدي".
يدفع القش بـ"الحركة الجماهيريَّة" في "ممانعتها" من مجرّد مصدر لأمل الفكر الماركسي إلى مركز التنظير. ناقداً بذلك التيارات الفكريَّة الماركسيَّة السابقة، التي جعلت مركز التنظير خارج الحركة الجماهيرية، مثل تصوّر الطليعة اللينينيَّة، الذي يستبيح وعي الطبقة العاملة أيديولوجياً، زاعماً "براءتها" وافتقارها إلى الوعي. كما لا يكتفي القش بتعيين فعل "الممانعة" كمرتكز للانطلاق النظري، أو ممانعة الحركة الجماهيريَّة كمنطلق عملي، فالرهان يبقى قائماً في قدرتنا على تحويل الفعل السلبي (الممانعة) إلى آخر إيجابي (مغالبة/مشروع سياسي) يمكننا من طرح بديل للسلطة القديمة. ولا يكون ذلك من خلال إنكار تاريخ المغلوب وطمسه، بل من خلال حركة عكسيَّة يقوم فيها المغلوب باستلهام القديم من أجل بناء الجديد بحيث "لا يفهم الغالب من لغة المغلوب الجديدة إلا مقولة القطيعة معه".
المسألة الشرقيَّة
يمثل الفصلان الأخيران من الكتاب (الفصل الخامس والسادس: "الغالب أو في التسلّط"، و"العثملي أو في المسألة التأريخية") الإسهام "العلمي"، تبعاً للاستعمال الماركسي، الذي يحقق غاية المشروع النظري الذي تقدم في الكتاب، وذلك من خلال حركة مزدوجة؛ تتمثل الأولى في نقد صورة التناول الماركسي للمسألة الشرقيَّة (التي أغفلها الماركسيون العرب بسبب انشغالهم بمقولة "هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي أو الكولونيالي")، تُعينه في ذلك كتابات روزا لوكسمبورغ حول تغوّل رأس المال في مواجهته مع الاقتصاد الطبيعي. والثانية من خلال تحليل مفصَّل ومتعدد الأبعاد لبنية الإمبراطورية العثمانيَّة (شملت الأيديولوجيا الدينية، والجوانب العسكرية والسياسية الإدارية والاقتصادية)، وكيفية إعادة إنتاجها لنفسها تحت وطأة تفاعلها مع الغرب.
يصل المؤلف هنا إلى السؤال عن آليات "الغلبة" للسلطة المركزية، في الدولة العثمانية، وعلاقتها بالسلطات المحليَّة المترامية وكيفية إعادة إنتاج تلك السلطة للعلاقات الاجتماعية القائمة. يعضد هذا السؤال سؤال آخر عن العوامل الأساسيَّة لقوة سيطرة الإمبراطورية العثمانية على رقعة جغرافية ضخمة وغير متجانسة لفترة طويلة من الزمن، وما هو سرّ تداعيها؟ دفعه كل ذلك إلى تتبع التحولات التي طرأت على البنية السلطوية في الدولة العثمانية، والآليات التي قامت فيها السلطة الأجنبيَّة بالتأثير عليها. وكانت تلك الآليات على ضربين؛ الأول، مهاجمة الأساس الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي (الجيش الانكشاري) للدولة العثمانيَّة، أما الثاني فكان من خلال تقسيم أجزاء الإمبراطورية العثمانية، والدافع في ذلك فشل السلطة الأجنبيَّة في السيطرة على جهاز "الغلبة" المركزيَّة وإدارتها.
ماركسيَّة عربيَّة
في ظل المصادر الثلاثة المعلنة (المعجم الخلدوني، الأيديولوجيا عند غرامشي، والعلاقة بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الطبيعي عند لوكسمبورغ) التي يؤسس القش أطروحته في الحوار معها، ثمة ثلاثة أخرى مضمرة، تتحرك في الخلفيَّة للبناء النظري الذي يقدّمه: الثورة الشعبيَّة والثقافيَّة عند ماو، ومفهوم السياسي عند كارل شميت، ومفهوم التاريخ عند فالتر بنيامن. غير أن هذه المفاهيم التي تسبح في نص الكتاب لا تعدو كونها أشباحاً، إذ عوضاً عن محاولة تدمير القديم لخلق الجديد يدعو القش لضرورة استلهام القديم في بناء الجديد استناداً إلى الحركة الجماهيرية وتاريخها، جاعلاً منها منطلق التاريخ ومصبَّه الأخير. وعوضاً عن دولانيَّة خطاب شميت يحافظ القش على مركزيَّة "الممانعة" والثورة مقابل التشكلات السلطوية المختلفة، وأخيراً وعلى النقيض من حلول بنيامن الجماليَّة للصراع الأزلي بين الغالب والمغلوب، يؤكد القش على ضرورة تحويل الممانعة إلى مشروع سياسي (عملي) كسبيل وحيد للخلاص.
ختاماً، بالرغم من لغة الكتاب "الماركسيَّة" التي ذبلت معاني مفرداتها مع الزمن، إلا أن تعدد المنابع الفكريَّة التي استند إليها القش بالإضافة إلى تحليله التاريخي الاقتصادي للمنطقة العربية في علاقتها مع الإمبراطورية العثمانية، يمنح الكتاب راهنيَّة فكريَّة وتاريخيَّة خاصة، بما يوفران له من سياقٍ كلّيٍ لصيقٍ بواقع التأزم العربي.
في واقع الأمر، يمكن لقارئ الكتاب أن يتلمس فيه نضارة الفكر المتحدِّر عن وعي بالواقع الاجتماعي العربي، فكر لا يقطع مع الفكر الأجنبي على قاعدة الغيريَّة، كما لا تُلهيه الألعاب اللغويَّة عن الانشغال بواقع "غير مفهومي"، هو شرط تجدد الفكر وحيويته. ولا تنال وضعيَّته المركبَّة من إمكاناته التنظيريَّة القادرة على الخروج من واقع مشروع التحرر العربي الكتيم إلى فضاء النظرية الرحبة.
* باحث في الفلسفة