"الصابرات": دورة دموية مغلقة

17 مارس 2016
(من العرض، تصوير: نور الجلولي)
+ الخط -

عادةً ما يكون الحكم الأخلاقي ردّ الفعل الأول عند معالجة ما يدور في المجتمع من جريمة ورذيلة، وغالباً ما تبيّن الفنون، وقد التحقت بها العلوم الاجتماعية مؤخّراً، أن هذا الحكم كثيرا ما يكون سطحياً؛ إذ إن التمحيص في الواقع يُغرق الظواهر في نسبية تُوسّع دائرة الأسباب، لتضع المسؤولية على عاتق الجميع، فتنتفي كلّ قيمة للحكم الأخلاقي.

يمثّل القاع الاجتماعي أحد أبرز فضاءات الجرائم والرذائل. هل يمكن أن يكون تقصّي هذا العالم محايداً، تماماً كما تَعرض كاميرا مشهداً من الحياة العامة؟ الماخور هو زاوية من زوايا هذا القاع الاجتماعي، وهو الفضاء الذي تسلّط عليه أضواءها مسرحية "الصابرات" لـ حمادي الوهايبي (إنتاج "مركز الفنون الدرامية والركحية" في القيروان)، والتي عُرضت مؤخّراً في تونس العاصمة، ضمن الاحتفالات باليوم العالمي للمرأة.

ينطلق خيط الأحداث من عرض فيديو لحادثة اقتحام متشدّدين دينيّين ماخور مدينة القيروان وإغلاقه بُعيد ثورة 2011. بنهاية الفيديو، تظهر ثلاث فتيات من العاملات هناك؛ السيّدة ورباب وزهيرة (أداء: خديجة البكوش ورابعة الجلالي وإشراف الطمومي) وقد طُردن منه. تحمل كل واحدة منهن حزمة، هي كل ما يملكنه حيال المصير الجديد المفتوح أمامهنّ.

تحتمي الفتيات في ليلتهنّ تلك بساحة عامّة في المدينة. نكتشف من حديثهن أن كل واحدة منهن تركت في المحل أموالها التي جمعتها خلال سنوات. يتفرّع هنا التفكير في اتجاهات عدّة، كيفية العودة إلى المحل لاسترجاع الأموال، وكيف ستدير كل واحدة منهن مستقبلها، بين من تفكّر في العودة إلى مهنتها، ومن تفكّر في القطع معها. في النهاية، وبعد تقليب الخيارات، يقلن بصوت واحد "نريد أن نرجع".

في سياق هذا الحديث، تُضيء كل واحدة من الشخصيات عوالمها، وكيف وصلت إلى هناك. ثلاث قصص تنطلق من نقاط متفرّقة، لتؤدّي إلى مصير واحد. لا تختلف ابنة الريف عن ابنة المدينة؛ فالفقر والتهميش والاستغلال والقسوة موجودة هنا وهناك، حتى المثقّفة تصل إلى المصير نفسه، حيث إن السجن طريق آخر يؤدّي إلى الماخور.

حيال الوضع الجديد، تقول إحداهن: "لم يعد هناك محل؛ العمل الحقيقي في الشارع". مقولة تنسف الحركة "الأخلاقية" التي أقدم عليه مُغلقو الماخور، بل إن إحداهن تشير في حديثها إلى أنها تعرّفت من بينهم إلى من كان يتردّد عليها.

من حين لآخر، تدوّي صفّارات سيارات الشرطة، ترتعب الفتيات ويهربن ثم يعُدن، وقد ينجحن في إقناع الشرطة بالتغاضي عنهن. في إحدى المطاردات، يعترضُهنّ ڤوبة (أداء: حسام الغريبي)، ابن صاحبة المحل، حيث كن يشتغلن، ومن كان يقوم بحمايتهن. يتصوّرن أنه خيط الأمل الذي سيوصلهن إلى مدّخراتهن.

مع ڤوبة، نكتشف أبناء عالم الماخور أكثر، فهو على عكس الفتيات الثلاث لم يكن خارجه قط، فهو ثمرته. من خلال قصّته، نعرف كيف يصنع هذا العالم شخصياته، كما عرفنا كيف تؤدّي عوالم أخرى إلى صناعة هذا الفضاء.

غير أن ڤوبة، وبإغلاق الماخور، ستنفتح علاقاته على عالم أوسع: تهريب بشر وتجارة مخدّرات وبيع دم فاسد وغيرها. لذلك، لن يأتي الحلَّ الذي انتظرته الفتيات، إذ سرعان ما سيتحايل عليهن مع والدته عزيزة (أداء: مريم بن حسن) لينتزع منهن بقية ما يملكنه.

بظهور عزيزة، تتركّب من جديد شبكة التجارة بالجنس. تقرّر، أمام حاجة الفتيات إلى المال، "تنظيم" العملية في الشارع لتعود دورة الدم في جسد الدعارة من جديد. تنغلق الدائرة على الواقع نفسه.

يذكّرنا العمل بأن سؤالاً ظل منسياً؛ فحين جرى إغلاق المواخير بهذا العنف، أين ذهبت التجارة التي كانت تشرف عليها الدولة؟ من فكّر في المصير الجديد للمومسات؛ الدولة أم أصحاب قرار الغلق أم الزبائن القدماء؟ الإجابة "لا أحد"، لذلك فالمومسات "صابرات" يبتكرن الحلول في الهامش، وهناك غالباً ما يُطبَق عليهن، مرة أخرى، فكّا الاستغلال والقسوة.

المساهمون