"الإسلاميات والعالم الإسلامي": أسلحة وأقنعة شفّافة

27 سبتمبر 2016
فانسان عبادي حافظ/ فرنسا
+ الخط -

صدر في فرنسا، في شهر تموز/ يوليو الماضي، كتابٌ بعنوان "الإسلاميات والعالم الإسلامي"، للباحثة الفرنسية ماري تيراز أورفوا، المولودة في دمشق سنة 1949، لأبٍ كان يعمل هناك في البعثة العسكرية إبّان الانتداب، فأتقنت العربية وترقّت في سلّم الدرجات العلمية والجامعية، وهي الآن من بين أبرز المختصّين في الشأن الإسلامي في فرنسا.

أصدرت أورفوا مؤَلفها في توقيت حسّاس، اشتكت فيه السلطات الرسمية الفرنسية من تراجع الاهتمام بالإسلاميات وغيابها عن جامعاتها العتيدة. ولهذا سارع المسؤولون إلى رصد ميزانية خاصة، تفتح بموجبها عشرة مناصب جديدة، فقط لهذه السنة الجامعية 2016 - 2017، لتدريس مادة الإسلاميات (Islamologie) كي تستعيد غابِر مجدها. فكان كتابها شهادة حياة، يؤكد استمرارية هذا الحقل المعرفي وحيويته. فإلى أي حدٍّ يمكن الوثوق بهذه الشهادة؟

ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسامٍ رئيسية: "المعطيات الأساسية للإسلام" و"المظاهر المخصوصة فيه" و"الإسلام والمسيحية" و"بعض المظاهر الثقافية الدالة في الحضارة الإسلامية". وتتوزّع هذه الأقسام بدورها إلى ستة وثلاثين فصلاً، تتناول بالتحليل ميادين شتّى، شديدة التباعد الموضوعي في ما بينها، فالباحثة تنتقل من المُثل الأخلاقية، إلى الأحوال الشخصية، ومنها إلى قضايا الاقتصاد والسياسة، وبعدها تعود إلى أحكام أهل الذمة والحوار الإسلامي - المسيحي، لتتطرّق إلى قضايا الأدب القديم، فإلى تدريس العربية في معاهد فرنسا.

إنَّ أول ما يتبادر إلى الذهن - حين نلاحظ خطّة الكتاب هذه - أنَّ الكاتبة قد تخلّت عن الروح التخصّصية التي طالما ميَّزت أسلافها من المستشرقين مثل جوزيف شاخت، الذي تخصَّص في دراسة الفقه الإسلامي، وأستاذها ريجيس بلاشار، الذي عكف، طيلة حياته، على درس الأدب العربي الكلاسيكي، لا يتخطاه خشية التعميم، ودانيال جيماري الذي قضى عقوداً طويلة يتابع معضلات علم الكلام، لا يجاوزه لغيره.

ولأنَّ موضوعات الإسلاميات متشابكة متداخلة، فإنَّ وضعها جميعاً على قدم المساواة لَمِما ينال بالضرورةً من جودة التحليل وعمقه. غابت روح التخصّص عن الكتاب، فجاء أشبه ما يكون بفسيفساء من أبوابٍ متنافرة موادّها، متباعدٍ في الزمن انتسابها، تنظم فصوله خطةٌ مصطنعة، لا رابط فعلي بين أجزائها. إذ تنتقل المؤلفة من بغداد إلى الأندلس، ومن "الإسلام في حقبته المدنية" إلى خطاب البابا بنيديكت السادس عشر، ومن جنس "المفاضلة" الأدبي، إلى الزواج بين المسيحيين والمسلمين.

والحقّ أن تقدّم المعرفة في مجال الإسلاميات الكلاسيكية، سواءً في المدرسة الألمانية بقيادة نولدكه، أو الفرنسية مع بلاشار وشارل بلا، كان رهيناً بالتخصّص المعمّق في دراسة جانبٍ معينٍ من الحضارة العربية الإسلامية. وأما نشر "دراسات" فضفاضة فهو عملٌ أقرب إلى منزع التبسيط منه إلى روح الاستقصاء التي ميّزت آباء الإسلاميات، بل هو مناقضٌ لأعمالهم، لأنه يرسّخ العمومية ولا ينصف الحقيقة. وتكفي نظرة واحدة في الباب الخامس "العدل والإسلام: من الشريعة إلى القانون"، لاكتشاف سطحية عرض تاريخ الفقه الإسلامي، بما فيه من تعقيداتٍ وتطوّراتٍ ومذاهب.

ونلاحظ ثانياً عودة الباحثة إلى النصوص والمفاهيم التي نشأت خلال القرون الأولى للإسلام لاستخدامها في تعليل ظهور الحركات الجهادية وأعمالها الإرهابية، التي يعيشها العالم الراهن، وهو ما ينمّ عن تلازم لاواعٍ - في سيكولوجيا الكاتبة - بين نصوص الإسلام التأسيسية، والإرهاب، بين مفاهيمه الكبرى وعنف الصراع الحضاري مع الغرب، متجاهلة الحقبة الاستعمارية، وما تلاها من حروبٍ ونزاعات تغذيها الرهانات الجيوستراتيجة المعقدة. فهي ترى مثلاً أنَّ داعش سليلٌ لنصوص القرآن والحديث الحاثّة على "الجهاد"، ووليدها، وليس جسماً طارئاً، خلّفته تشابكات الحروب في العراق وسورية.

وفي فصل آخر عنونته بـ "من التدليل إلى اللامعقول"، تعرّضت الكاتبة إلى مشكلة العقلانية في الإسلام، واستشهدت بما قاله البابا بينديكت السادس عشر، سنة 2005، في محاضرته الشهيرة. ثم ما لبثت أن صارت، هي نفسها، طرفاً في الخصومة، تنتقد غياب العقلانية في ثقافة الإسلام وتستدلّ بمشتقات كلمة "عقل" في القرآن، مع الصمت التام عن مرادفاته وسياقاته.

وما يلاحظ ثالثاً أنَّ الكاتبة قفزت بشكل كلّي على كتابات محمد أركون، وضرباته الموجعة في نقد الاستشراق (انظر كتابه: "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" وما بعدها)، وأغفلت دعواته الملّحة لتطبيق العلوم الإنسانية على الظواهر الدينية مثل العلوم الإنسانية واللسانيات والاجتماع والسيكولوجيا وغيرها، تطبيقٌ يظهر التداخل بين الروحي والزمني، ويبرز تفاعل الأبنية الاجتماعية في تغذية الصراعات على المقدس ورموزه. قفزت الدارسة على هذه المرحلة وكأنها لم توجد، وعادت تمارس خطاباً يتصل بالإسلاميات ظاهراً، ولكنه يستند إلى مواقف دوغمائية، ذات طابع جدالي وإثاري، مثل تركيزها على الجهاد، العنف، وضع المرأة، وحقوق الإنسان، في فصول تصدمك بانتقائيتها وتوتّرها، ويكفيك قراءة الفصل الخاص عن "الأمَّة في الإسلام".

ما سيق من ملاحظات يشير إلى أنَّ مصطلح "الإسلاميات" صار بمثابة قناع شفاف، يستر به بعض الباحثين خطاباتهم الاستعلائية، التي يستمر فيها موقف التفوّق الغربي - المسيحي، السائد منذ القرون الوسطى. تستعيد هذه الخطابات السجالات القديمة بين المسيحية والإسلام، التي لئن خفّت حدتها المذهبية، بفعل هذا القناع العلموي، فإنها ما تزال تحمل نفس النبرة العدائية للإسلام ونصوصه. وعلامة ذلك، الاجترار - بأسلوب يكاد يكون إعلامياً - لآيات الجهاد وأحاديثه، بعد اقتلاعها من سياقاتها الأصلية التاريخية، وربطها بجوهر مفترض عن الإسلام. وغالباً ما تصاغ في نبرة تمجيدية تفاضل بين مفاهيم الثقافتين، مثل المقارنة بين "الشهيد"، في التصوّر المسيحي، الذي يُصلب على عمود الإيمان، والشهيد، في الإسلام، الذي يقضي في ساحة الوغى، من أجل دولة.

ظاهر خطاب الإسلاميات، عند ماري - تيراز أورفوا، خطابٌ تحليلي للنصوص القديمة ووقوف على تشكّل المعنى فيها، وباطنها سجالٌ يستعيد موضوعات التفاضل بين المسيحية والإسلام. لم يتحرّر كلامها من نزعة الاستعلاء، فظلت تعالج الموضوعات بمسلّمات مسبقة: القرآن أمشاجٌ لا قداسة فيه، ترتبط مفرداته بجزيرة العرب، وتحيل إلى عنفٍ بنيوي كامن في نصوصه، وبها تفسّر ما تأتيه الجماعات الإرهابية. ثمَّ تخفي- في انتقائية مشبوهة - كل مظاهر الفرادة والإبداع في الثقافة العربية.

دلالات
المساهمون