"متدرب" بو جونفنغ: ثارات المغلوب

11 يوليو 2016
لقطة من الفيلم
+ الخط -

بطل الشريط الثاني للسنغافوري بو جونفنغ، "المُتَدرِّب"، شاب واضح المُحيّا، ويتيم. يعيش مع شقيقته، الساعية إلى هجرة نهائية مع عشيقها الأسترالي "الأبيض". هو، في المُحصّلة الاجتماعية، كائن مغلُوب ينوي تصفية حساباته مع حظوظ لا تتلاقى مع آخرين، ما يفسّر عزلته، المُجبر على "تغطية" ثقوبها بهوس العمل، والتفاني في مسلكياته. تقوده، هذه الأخيرة، الى انقلاب كبير في سرّه الشخصيّ ووجعه.

عندما يواجه أيمن (ريف رحمن) قامة الرجل الغامض، المدعو رحيم (سو وان حنفي)، الذي يستعد إلى التقاعد من مهنة لا رحمة فيها (نقيضاً لاسمه)، تحمّله أوزار حيوات عشرات الخطأة، وتجعله عدواً شرساً لذرّياتهم، يكون الشاب منذوراً لاتخاذ خيار صادم.

تخترق نتائجه الحادّة كيانه، وتهزّ منطق إيمانه ورؤيته للعدالة، ومشيئتها وحكم جماعيتها. إذا كانت المقولة الدينية توعّدت بأن "أجرة الخطيئة هي الموت"، فهل تنطبق على كائن وظيفته زهق أرواح؟

بمعنى آخر، مَنْ يُفوَّض لتصفية حساب مع رجل، يثابر كل يوم على تهيئة مسرحه بدقة، ويرتب عدّة عمله الدمويّ وأكسسوارته، ليقيم "حفلة" وضع حبال غليظة ومُزَيّتة لمشنقة حول رقاب غرباء؟

هذا "قاتل" رسميّ، لا يأذن له القانون مساءلة ما إذا كان بين فرائسه أبرياء أو ضحايا وشايات، أو مغرّر بهم، أو مَنْ طالهم غدر سياسيين نافذين، وخانتهم أحزاب فاسدة، من بينهم والد أيمن، الذي أُعدم في القاعة المنحوسة ذاتها، التي دخلها الابن موظّفاً وحارساً في سجن سيء الصيت، معترفاً لأخته المندهشة باعترافه: "تعرّفت اليوم على جلاّد والدنا".

لن يرمي "المُتدَرِّب" (96 د.)، الذي دعمت "مؤسّسة الدوحة للأفلام" في قطر استكماله بـ "منحة ما بعد الإنتاج"، مسوّغات بطله الشاب دفعة واحدة، رغم إعلانه الهادئ، في المقابلة الرسمية، أن انضمامه ناتج من "رغبته في مساعدة الناس"، وهو دافع يثبت جِدّته في تحاشي عزلته.

تتحوّل هذه النية الملتبسة (العون) إلى هاجس إداري، عندما يكتشف مدير سجن "لارانغان" الشديد الحراسة، فاجعة والده ذي السوابق العدلية، فيصبح "طالب الوظيفة" طريدة من نوع آخر.

ففي وقت ترى الإدارة في شخصيته وطلّته القوية نموذجاً لنوعية قيادية جديدة، تستكمل "الواجب"، وتتفانى فيه، وتكتم أسراره، تتخوّف من إمكانية ابتزازه لها بحكم القانون، فيما لو توصّل الشاب إلى حقيقة مصير أب، بدا أنه أخفى حقيقة نشاطاته عن عائلته. لذا، يصبح القرار اللئيم في إلحاقه بمكتب رحيم شؤماً درامياً، يمهّد لنقلة كبرى في فطنته.

يبدأ هذا الانقلاب باستفساره عن طول خدمة رئيسه. يجيبه الرجل الكتوم بما يشبه الإنذار: “خدمت 34 عاماً، نفّذت خلالها 600 عملية إعدام". "هل أشفقت عليهم؟"، يلحّ أيمن. يأتيه الجواب قاطعاً: "القانون لا يُعلى عليه. هؤلاء ارتكبوا جنحاً، يجب أن يدفعوا ثمنها".

بحسب وصفة المخرج بو جونفانغ (1983)، فإن الجلاّد لا يهادن، كونه وجهاً لإقرار حقّ عام، ومنفّذاً لوصاياه القاطعة. لذا، فالدرس الأول الذي يخضع له البطل، لا يستصوب وجهته وحسب، بل يضع قدره ضمن اشتراطات جديدة.

أولاً: الاستخبار عن الخصوصيات محرّم، لأنه ببساطة يقرّب النوايا، ويشحذ عواطف لدى مَنْ يتوجّب عليهم "قهر" مشاعرهم. مهنةٌ تتطلب كتماناً ونأياً عن تطفّل الآخرين. ثانياً: ما هو خارجيّ مأفون، و"تصحيحه" يحدث في عمله وأثناء واجبه، أي في عنابر الاعتقال، ولاحقاً في باحة الإعدام.

يواجه صاحب "قلعة رملية" (2010) تفصيليّ حياتين متضادين وشرسين. ففيما تصبح شقة أيمن، بعد هجرة شقيقته سهيلة (مستورة أحمد)، مسرحاً فردياً لعنفه، حيث نراه مدمِّراً محتوياته، ولاغياً ما كان جزءاً من هويته، نشاهده، على طرفٍ درامي آخر، منخرطاً في تدريبات تمهيدية لعمليات إعدام سجناء، بإشراف رحيم، "الرجل الذي أحمل له في داخلي ضغينة وغضب كبيرين"، كما يُقرّ لأخته. ثم نعلم لاحقاً بـ "انتحار" الرجل العجوز، في حادث سيارة غريب الدوافع، ممهداً السبيل لبطله في وراثة "مقامه" جلاّداً، رغم كونه ابن ضحية سابق.

يندّد بو جونفنغ بسياسة الإعدام ولا إنسانيته. لكن رزانة نصّه لا تناقش بديلاً عقلانياً له. نقول "رزانة"، لأن "المُتدَرِّب" غير معني بالخارج السنغافوري، الذي نراه في جولات أيمن القليلة حضارياً وأنيقاً ومتطامناً.

هناك مشاهد قاسية، صوّرها بونوا سولار بإيقاع بارد واستفزازي، لزيارات ولديّ معتقل، يقرآن معه سورة "الفاتحة" قبيل إعدامه. ومثلهما، امرأة غامضة، ترسل مقتنيات سجين آخر، معلنة تخلّيها عنه في آخر لحظات حياته المشؤومة.

وأيضاً، الفصل الصاعق الذي يفحص البطل خلاله مكننة أدوات "الفناء"، ممتحناً قوّة أنشوطاتها، قبل اعتماره غطاء الرأس الخاص بالضحية، مختبراً مهابة الموت المواجه لطرائده. يُبقي بو جونفنغ تحامله الدراميّ محصوراً ضمن محيط ضاغط بمكونات اعتبارية، أيّ سلطة دولة، وتراتبية وظيفة، وخنوع لإملاءات، وولاء لمرؤوسين، وغيرها، التي تصوغ بمجملها ملامح سيرورته كـ "قابض أرواح" شرعي.

"المُتدَرِّب" ليس عن السجون وعوالمها بالضرورة، إذْ يتحوّل السجن، بحسب رؤية بو جونفنغ، إلى رحم حكومي، بخلاصة سوسيولوجية شنيعة: المعتقل المنيع عشيرة الشابّ ودارته، وموئل خاتمته كمَدْحُور.


دلالات
المساهمون