تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "أترجم لكي أفهم العالم، وهذا هو نفس ما أتمناه للقارئ العربي حين أقدّم له نصوصاً أجنبية" يقول الشاعر والمترجم العراقي في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- بدأت مع الشعر والبحث عن المعرفة في أصولها. أنا شاعر قبل أن أكون مترجماً، رغم أنني كنت مقلّاً في النشر، وأتحاشى تجمعات المثقفين والأدباء. قراءاتي للشعر الأجنبي في وقت مبكر، أي منذ سبعينيات القرن الماضي، حفّزتني في ما بعد لنقل بعض النصوص، وكانت بمثابة تمرينات مغامرة لم ينتج عنها شيء حقيقي آنذاك. أما في الشأن المعرفي فكان لديّ فضول بمعرفة أصول الأفكار التي تصل إلينا من جذورها وأصولها.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- آخر الترجمات التي أنجزتها هي كتاب "قصائد نثر" للكاتب الروسي إيفان تورجينيف، بالإضافة إلى رواية "پان" للروائي كنوت هامسون عن النرويجية. وكنت قد دفعت للنشر كتاب "الفزع" للفيلسوف الدنماركي سورن كيرككَورد، ضمن مشروعي لترجمة أعماله الكاملة عن الدنماركية، وقد أنجزت حتى الآن ترجمة ستة أعمال له.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- يواجه المترجم العربي صعوبات جمّة، أهمها اقتصادية، وهي عدم تأمين مورد مالي ثابت له، لكي يتفرّغ بصورة كاملة لهذا العمل الصعب والشاق. ثانياً، عدم وجود مؤسسات ثقافية محايدة تقوم بدعم نشاطه، لأن معظم مؤسساتنا مسيّسة، وتنطلق - عند التعامل مع المترجم أو في تقييم نشاطه - على أساس العلاقات الشخصية أو تبعاً لتصوّراتها الفكرية الخاصة. ثالثاً، قضية النشر؛ حيث يعاني العديد من المترجمين من نشر نصوصهم في تعاملهم مع بعض دور النشر، ناهيك عن صدق هذا التعامل. وللأسف بعض هذه الدور لا تمتلك وعياً معرفياً بالتسويق الثقافي، ويهمّها الربح فقط، رغم أهميته ومشروعيته، كما أن عملها يتسم بالعفوية وغياب الهدف والتنظيم.
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- لا يمكنني أن أتحدّث بصورة عامة حول هذا الموضوع، طالما أنني لا أمتلك بعضاً من تفاصيله، أما بالنسبة لي، فأنا لم أتعامل مع محرّر، وأعتقد أن على المترجم أن يتقن عمله ويقوم به بنفسه، لكنني أطالب دار النشر دوماً بأن تقوم بمراجعة لغوية لنصوصي، وأنا منفتح على أية مقترحات أو آراء حول ترجمتي. وهذا الأمر معروف لدى دور النشر الغربية حيث يوجد مصحّح لغوي فيها، بغض النظر عن عائدية النص المُترجم أو مكانة صاحبه وشهرته. ومن خلال تجربتي، لا يمكن للكاتب أو المترجم أن يضمن عدم انزلاقه في خطأ أو سهو ما، بحيث يغفل الانتباه إليه بفعل انغماره بالنص المترجم وانشغاله بتفاصيله المعقدة أحياناً. ومع ذلك، فإنني أعيد قراءة نصي المترجم حتى بعد المراجعة اللغوية، فقد حصل لي مع إحدى دور النشر، أن اكتشفت، أن المراجعة اللغوية كانت مليئة بالاخطاء وغير دقيقة.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- علاقتي بالناشر طيبة عموماً، وأنا لا أتعامل مع أيّ كان من الناشرين. أما بخصوص العناوين المترجمة فهو أمر خاص بي، ولا أتعامل حسب الطلب. وقد سبق أن طرحت علي إحدى دور النشر القيام بترجمة نصوص تقدّم من قبل الدار مقابل مكأفاة جيدة وعالية، لكنني اعتذرت لها عن ذلك، لأنني أريد أن أترجم ما أراه مهماً للثقافة العربية، بعيداً عن شروط السوق التي تتحكم بتلك الدار. علاقتي بالترجمة هي علاقة معرفية وحياتية. أنا أترجم لكي أفهم العالم، وهذا هو نفس ما أتمناه للقارئ أيضاً. بعض دور النشر تريد نشر نصوص فحسب، أما أنا فأسعى إلى ترجمة ما يلمس الوعي ويحفزه، نصوصا يرى فيها الإنسان نفسه ومعاناته.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- لا توجد لدي أية اعتبارات سياسية عندما أترجم أيّ كتاب. اختيارتي قائمة على أساس معرفي بحت. وستكون مأساة حقاً إذا قمنا بحذف أيّ كتاب أو نص لا ينسجم فكرياً أو سياسياً مع مشاريعنا الترجمية. من حق القارئ أن يطلع على كل شيء، وينبغي أن نعترف بقدرة القارئ الفكرية على التمييز بين الصالح والطالح من الكتب. فمثلاً شرعت بترجمة سورن كيرككَورد، وأكتب عنه، ليس لأنني أتفق مع أطروحاته دائماً، لكنني أجد فائدة معرفية وفكرية كبيرة لترجمة نصوصه، لأنها تمس حياتنا اليومية وواقع أحوالنا الراهنة، إضافة إلى أنني أجدها فرصة لإعادة تصحيح ما تم تشويهه من كتاباته وآرائه من قبل بعض المترجمين.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- لا أبالغ إذا قلت إنها علاقة روحية. الترجمة لا تقتصر على النقل من لغة إلى لغة أُخرى، بل تتطلب العيش الكامل في أجواء النص المترجم، وفهم تصوّرات الكاتب وتطلعاته، وخبراته الحياتية وتصوّراته الوجودية، وهذا يتطلب بحثاً عن خلفيات الكتاب المراد ترجمته وكاتبه أيضاً. من هنا يمكن القول، إن الترجمة هي معايشة عميقة لروح النص وتجليات الكاتب وهمومه، ومعاناته، والأجواء التي كتب فيها النص. لا يمكنك مثلاً أن تترجم رواية عن شمال النرويج، دون أن تكون لديك فكرة ومعرفة بالأجواء والأنساق التي عاشها الكاتب، سواء جغرافية أو معيشية أو تاريخية أو فكرية، لأن لغة الرواية هي نتاج لتلك الأجواء وأنساقها. ولهذا يرافق كل عمل مترجم نوع من البحث المسبق الذي يشكّل ضرباً من إقامة علاقة تتيح فرصة أكبر لفهم النص المترجم وعالمه.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- أعتقد أن هناك علاقة متداخلة، فأسلوبية الكاتب تلقي ظلالها بلا شك على المترجم، فأنا كشاعر أجد لذّة بترجمتي للشعر، والذي يتطلب صبراً استثنائياً، لكن هناك مخاطر أيضاً، فعلى المترجم أن لا يسمح لأسلوبيته أن تستبدل أسلوبية أو بنية النص المترجم، بل عليه أن يوظف مهاراته وخبرته الأدبية لكي يقترب من روح النص المترجم إلى أقصى حد. إن الالتزام الصارم بالأمانة للنص المترجم، والحرص عل العثور على معنى دقيق لكل ما يقابله من مفردات أو عبارات بشكل صحيح، وعدم الاكتفاء باستخدام أول معنى يقابلها، أمر بالغ الأهمية. فكثيراً ما أسال نفسي لماذا يستخدم كاتب النص الذي أترجم عنه هذا الفعل أو تلك المفردة بالذات، وليس غيرهما، ولهذا على المترجم أن يكون صبوراً وباحثاً وفضولياً عند الترجمة، ولا يكتفي بما أسميه "النقل اللغوي الآلي" للنصوص، الذي يمكن أن نطلق عليه ايّ شيء سوى مفهوم الترجمة. لأن الترجمة إبداع يتطلب التأمل في اللغتين المُترجَمة والمُترجم اليها.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- للأسف لا أفقه فيها شيئاً، لأنني أترجم بعيداً عن عوالمها، لذلك لا أشغل نفسي بها، أو أدخل في مماحكات عنها. أنا أترجم لأنني أحس بمسؤولية ثقافية وإبداعية تجاه القارئ لنقل ما يمكنني أن أنقله إليه من تجارب أدبية وفكرية. ولهذا جائزتي الأولى والأخيرة هي أن أُقرأ.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- أنا بعيد عن المؤسسات، لذلك لا أعرف العقلية التي تشتغل بها، لكنني عموماً أرى أن معظم أعمالها محكومة بتصورات سياسية و حسابات بعيدة كل البعد عن الثقافة والأدب والفكر. كما أن المهيمنين عليها أحيانا لا علاقة لهم بالثقافة والأدب، أما الذين ينسبون إليها من أدباء، فبعضهم قد وظف فيها على أساس العلاقات الشخصية، التي تضر بحيادية المؤسسة الثقافية. في العالم الغربي مثلاً، عندما يعلن مترجم ما الشروع بترجمة أعمال كاتب أو مفكر أو فيلسوف تتوالى عليه الطلبات من العديد من المؤسسات الثقافية لدعم عمله وتقديم المكافآت له دون أيّة شروط تخرج عن مجال الترجمة والأدب. وسؤالي هو: كم مترجم اتصلت به هذه المؤسسات لتقديم دعم مالي له؟
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- أنا أترجم بانتظام، أعمل يومياً أكثر من خمس ساعات ترجمة أو أكثر أحياناً. وحين تواجهني بعض المفردات المعقدة لقِدمها، أو التي لا أجد مقابلاً لها في القواميس، ألجأ إلى مختصين في تلك اللغة. وأنا محظوظ لأنني أعيش في الدانمارك، مما يسهّل عليّ طرح السؤال دون حرج. أحياناً ألجأ إلى بعض صديقاتي أو اصدقائي، رغم ندرة ذلك.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- لم أندم على ترجمة نص منشور قمت بترجمته، لكنني ترجمت نصوصاً لم أقم بنشرها، لأنها لا تضيف شيئاً، كما أنها محكومة برؤية أيديولوجية أكل وشرب الدهر عليها. لهذا لا تزال محفوظة في أوراقي.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
- أرى أن الترجمة العربية برغم كل الصعوبات التي يواجهها المترجم تمر بحالة ازدهار، رغم أنها دون المستوى المطلوب، وهو أمر خارج عن إرادة المترجمين، بل يتعلق بعموم السياسة الثقافية في بلداننا، والمستوى التعليمي لشعوبنا، وتطوير عادة القراءة التي ينبغي تطويرها منذ الطفولة. لكن هناك بالإضافة إلى ذلك مخاطر ازدياد الترجمات المستعجلة غير الرصينة. حُلمي كمترجم أن أتمكن من إكمال مشروعي بترجمة اعمال سورن كيرككَورد من اللغة الدانماركية، أو على الأقل قسمها الأكبر والمهم إلى العربية.
بطاقة
مترجم وشاعر عراقي من مواليد 1952 ومقيم في الدنمارك . له عشر ترجمات في مجالات متنوعة كالأدب والفلسفة والموسيقى، منها: "شوبنهاور مربياً" لـ فريدريك نيتشه، و"الخوف والرعشة" و"شذرات فلسفية" و"التكرار: محاولة في علم النفس التجريبي" لـ سورن كيرككَورد، و"عالم الصمت" لـ ماكس بيكارد، ومختارات من الشعر الدنماركي، كما صدرت له خمس مجموعات شعرية وكتاب نقدي بعنوان "أفق المخيّلة".