ذهب المفكّر الأميركي من أصل ألماني، فرانز روزنتال (1914 - 2003) إلى ما هو أبعد من تقديره للحضارة الإسلامية وترجمة بعض آثارها، ومنها مقدّمة ابن خلدون في ثلاثة أجزاء، إذ ربط بين التقدّم المعرفي والعدالة التي عاشت في ظلّها أمم عدّة على أساس المساواة والتحرّر.
ويخلص صاحب كتاب "علم التاريخ عند المسلمين" إلى أن العلم هو الإسلام، في سياق تفسيره العلم الإلهي باعتباره مصدراً للعلم الدنيوي، وكيف أن المعرفة هيمنت على جميع مناحي الحياة اليومية، وأصبحت قيمة عليا يتنافس حولها الجميع ليحقّقوا ما حقّقوه في زمن قياسي، مقارنةً بحضارات أخرى.
في كتابه "العلم في تجلٍّ: مفهوم العلم في الإسلام في القرون الوسطى" (1970) الذي صدرت نسخته العربية، ضمن سلسلة "ترجمان" عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، بترجمة الباحثَين الأردنيَّين يحيى القعقاع وإخلاص القناونة، يركّز روزنتال على الأسس المفاهيمية للحضارة الإسلامية وأصل نشأتها وفهمها للمعرفة، أكثر من اهتمامه بنتاجاتها الفكرية والعلمية في عصر ازدهارها، كما فعل العديد من المستشرقين.
وإذا كانت رؤيته الأساسية في كتاب "مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي" تتمثّل في إيضاح ذاك المنهج الراسخ الذي اتبعه علماء الإسلام معتمدين الدقّة في النقل والأسلوب النقدي، فإنه يبرهن في مؤلّفه هذا أن المعرفة في انتقالاتها من القرآن إلى الدراسات الدينية فالصوفية ثم الفلسفة، وتجلياتها في الأدب والأخلاق، كانت الشغل الشاغل في الإسلام كمكوّن حضاري ومعطى تاريخي ونواة لتأسيس دولة ومجتمع.
يشير روزنتال إلى مسألتين أساسيتين: الأولى تتمثّل في اشتراط اكتساب أعلى مستوى علمي حتى يُعترف بصاحب العلم منذ القرن التاسع الميلادي، وأن ينشر معرفته في موسوعات كانت تُعدّ نوعاً من تقطير المعرفة اللازمة لجمهور المتعلّمين، والثانية في خضوع النظام التعليمي إلى نظرة فلسفية قائمة على نشر العلم للعامّة وأن يكون مسخَّراً لخدمتهم.
يقدّم المؤلّف مقاربة مبنية على معرفته بالنصوص الدينية، وهو الذي درس عدّة لغات سامية، وبالتاريخ الاجتماعي للمنطقة العربية، خاصة في مراحل انتقالها المركّبة، من الوثنية إلى الإسلام، ومن الشفاهية إلى التدوين، ومن التعليم المتنوّع إلى التخصّص في العصر العباسي، محلّلاً ذلك على نحو يتّصل بذائقة النخبة من الطبقة العليا وفي فهمها الخاص لاحتياجات المجتمع.
وينفرد روزنتال في قراءة مختلفة لواقع شبه الجزيرة العربية ما قبل الإسلام، والتي كان يجري إهمالها أو عدم الرغبة في إدراكها بشكل معمّق، وكذلك في تطرّقه لعلاقة المال بالسلطة والبعد الطبقي في العلم والتعلّم، ضمن مشروعه الذي يعاين الفرد في علاقته بالمجتمع خلال التاريخ الإسلامي.
يُفتتح الكتاب بفصل "العلم قبل العلم"، والذي يناقش تطوّر مفهوم العلم قبل الإسلام وبعده، ثم ينتقل في "العلم والتنزيل" إلى البنية الفكرية الأساسية التي وضعها النبي محمد ولم تتغيّر بعهده، وفي "جمع كلمة علم" العلاقة بين العلم الدنيوي والعلم الديني، بينما يخصّص "تعريفات العلم" لجملة المصطلحات والمفاهيم المتعلقة بالعلم، و"العلم هو الإسلام" لعلاقة العلم والإيمان، ويتناول في "العلم نور" تعريف الصوفية كعلم منهجي، ويحدّد في "العلم فكر" كيف كان علم الكلام والشريعة ركيزتَي الإسلام، ويختم بـ"العلم هو المجتمع"، متناولاً فيه العلاقة بين العلم والتعليم.