مايكل أونداتجي.. ضوء ضعيف يكشف كل شيء

25 سبتمبر 2018
(مايكل أونداتجي في تلال فلسطين عام 2014، روب ستوثارد)
+ الخط -

يتراءى العالم في رواية "وورلايت" أو "ضوء حرب"، سابع أعمال الكاتب الكندي السريلانكي مايكل أونداتجي الذي بلغ عامه الخامس والسبعين في 12 أيلول/ سبتمبر الأسبوع الماضي، وكأنما من وراء سِتار.

لا يعني هذا أن الشخصيات التي يَعرِض لحياتها صاحب "المريض الإنكليزي" (1992) في أحدث أعماله (صدرت في أيار/ مايو الماضي) هم أشباحٌ ثُنائيو الأبعاد، ولا أن الحكاية التي يحكيها غامضة أو هُلامية؛ كل ما في الأمر أن مطالعة الرواية أقرب إلى الوقوف خلف شباك مُضبّب ذات يوم شتوي في لندن: بوسعكَ أن تَستوضح ما هناك أينما نَظَرتَ بعينيك، لكنك ستراه مُتشذِّراً وغائماً في تكوينات حَمّالة أوجُه تعكس آليات الذاكرة نفسها.

تتحرك الرواية -المنطوية على أصداء من سيرة كاتبها- عبر 14 عاماً من حياة ناثانيال (البالغ من العمر 14 عاماً في القسم الأول و28 عاماً في القسم الثاني) وهي فترة نَقَاهة العالم بعد شفائه من الحرب العالمية الثانية.

فالروائي السيرلانكي أونداتجي الذي تَجمَع أصوله العِرقَين المُتناحِرين في البلاد (السِنهالي والتاملّي) مع عرق هولندي، أَمضى السنين العشر الأولى من حياته محروماً من أبويه في كولومبو ثم شَبّ عن الطَوق في إنكلترا حيث كانت أمه تعيش قبل أن يُهاجر وحده إلى مونتريال في عمر 19 عاماً. لعل الالتباس حتمي في عيني مثل هذا الشخص، لكنه التباس أقرب إلى الشِعر بكل ما فيه من تَركيب جَمَاليٍّ وقدرة على الإيحاء.

يقول البطل-الراوي ناثانيال في بداية القسم الثاني: "يقال إنك لو حاولت أن تكتب مذكرات عليك أن تكون في حالة يُتْمٍ. هكذا يمكن للأشياءُ الناقصة فيك، وتلك التي صِرتَ حَذِراً ومُتردّداً حيالها، أن تجد طريقاً يكاد يكون أريحياً إليك. "إن المذكرات هي الميراث الضائع"، هذا ما تكتشفه، وخلال ذلك الوقت تتعلم كيف وأين تبحث. حتى يكون كل شيء متناغماً في الصورة الشخصية التي تنتهي، لأن كل شيء يكون قد انعكس فيها بالفعل. حتى الإيماءة التي زُجّ بها في الماضي، ستراها الآن عبر امتلاك إيماءة أخرى. هكذا اقتنعتُ بأن شيئاً ما في أمي لا بد من أن يتناغم فيّ. هي في غرفة مراياها وأنا في غرفة مراياي".

يعمل ناثانيال في أرشيف الدولة، ومهمته تنقيح السجلات بهدف إخفاء أو تحوير كل ما يمكن أن يدل على الأعمال الجاسوسية أثناء الحرب العالمية الثانية. لكنه، على الطرف النقيض، مشغول بالتنقيب في حياته عن كل ما هو خطير وشائن.

إنه يستعيد، ليس فقط طفولته مع أخته رايتشل التي تكبره بعامين، ولكن أيضاً حياة أمه روز التي قُتلت وهو في عامه الثامن عشر، ثم مصرع الرجل الذي عاش في رعايته مع أخته إثر محاولة لاختطافهما بعد رحيل أبويه المفاجئ سنة 1945.

وبينما تتسلل الصياغات الشعرية إلى قوالب الإثارة البوليسية، تتشابك المشاهد المتفرقة وراء الزجاج حتى تكتمل الصورة في عقل الناظر، ويُفهم السبب في ذلك الشجن المُقيم.

صَدَرت "ضوء حرب" هذا الصيف عن دار ألفريد كنوف النيويوركية، ناشر أونداتجي منذ أولى رواياته "عبور المذبحة" (1976). وهي فَضلاً عن كونها بديعة الصنع ومتماسكة التركيب تَجتاز كل اختبارات المَقروئيّة (وصلت إلى قائمة بوكر الطويلة ولكنها لم تبلغ القصيرة): الحَبكة الدرامية، النثر الجَزِل، الشخصيات المُقنِعة، السرد المُتَرَابِط.

من هذه الزاوية يُذكّرنا أونداتجي باثنين من أشهر الفائزين ببوكر: الإنكليزي إيان ماكيوان الذي يستخدم الراوي العليم ويلتزم المَوضوعية والتعامل العقلاني مع العلاقات والمصائر في روايته الأقرب إلى الكوميديا "أمستردام" (1998)؛ والجنوب أفريقي جون ماكسويل كويتزي (الحائز على نوبل 2003، الذي يلجأ إلى البطل-الرواي ليكشف بدقة مؤلمة عن الشبق والعنف الكامنين تحت جلد حتى أكثر الناس تحضُّراً في روايته الأقرب إلى التراجيديا "خزي" (1999).

ومع ذلك، ثمة جوانب من أونداتجي تَربطه برواية الفانتازيا والكَرنَفَاليّة المُرتبطة بالواقعية السحرية على اختلاف تَجليّاتها داخل وخارج أميركا اللاتينية. ثمة "أطفال منتصف الليل" للكشميري البريطاني سلمان رشدي، والتي فازت ببوكر 1981 ثم "بوكر أوف بوكرز" سنة 1993 بل وأفضل بوكر سنة 2008 (احتفالاً بمرور 25 ثم 40 عاماً على إنشاء الجائزة)، وضمن أشهر الروايات غير الواقعية أيضاً "طريق الجوع" للنيجيري بِن أُوكري (1991)، و"إله الأشياء الصغيرة" للهندية أرونداتي روي (1997)، و"تاريخ موجز لسبعة مصارع" للجامايكي مارلون جيمس (2015).

هذه أعمال لا تكتفي باقتحام الأدب العالمي والطعن في هويته "البيضاء"، وإنما تُناطح واقعية ذلك الأدب فتَستفيد من التباس التاريخ القريب بالخرافة والأسطورة وسواهما من موروث ذاتي. وهو ما تفعله "ضوء حرب" أيضاً رغم أن أبطالها كلهم بيض ومحتواها خالٍ من أي موروث غير أوروبي. هنا تتحقق الغرائبية من خلال الذاكرة والشِعر، وتخرج إدانة الحرب من صدر المحارب.

ليس ثمة عدل حقيقي في أي جائزة أدبية مهما بدا العمل الفائز مُستَحِقاً، لكنْ لَعلّ أحقُّ الروائيين ببوكر منذ إنشائها سنة 1968 هم أولئك القادرون على موازنة الاتجاهين بالفعل. من هؤلاء مثلاً كازو إيشيغورو الحائز على آخر نوبل (2017) قبل حجب الجائزة، وهو الياباني الأصل الذي سبر غور النفسية الإنكليزية أعمق من أي كاتب أبيض في "بقايا اليوم" (1989). ولدى إيشيغورو كَسْرٌ لأعراف ومسلّمات الرواية البيضاء بغض النظر عن "بقايا اليوم" بالذات.

غير أن ذلك التوازن الحائر بين العقلانية واللاوعي يتحقق على نحو باهر حقاً في أعمال أونداتجي، والذي بدا فوز روايته الأشهر "المريض الإنكليزي" ببوكر الذهبية احتفالاً بمرور 50 عاماً على إنشاء الجائزة من ثمّ لحظةً مُواتية في تاريخ الأدب المعاصر. هنا أيضاً كتابة لا تُطالِب قارئها بتصديق الخوراق ولا اللهاث وراء المطاردات، ومع ذلك لا تفتقر إلى القدرة على التسلية.

يوثق ناثانيال قصص اندماجه مع ملاكم متقاعد يعمل في تهريب كلاب السباق إلى لندن، وارتباطه بفتاة تنتهي إلى أحضان ذلك الملاكم، وخلاف أمه وأخته (فرايتشل تُقاطع والدتها روز ما إن تعرف حقيقة اختفائها من حياتيهما أطفالاً، حتى أنها ترفض حضور جنازتها). لكنه، وهذا الأهم، يَحل الأُحجية التي تطرحها حياته.

تعود روز في أعقاب محاولة الاختطاف لتشرح أنها كانت تعمل جاسوسة تحت اسم فيولا طوال سنوات الحرب، وأن لحاقها بزوجها الذي سبقها إلى سنغافورة لم يكن إلا حجة للهرب. فثمة من يتربص بها نتيجة ما تَسبّبت به من عنف، ثمة تعقيدات غرامية كذلك.

هكذا يتحول ملف من ملفات المخابرات الإنكليزية السرية إلى "مذكرات" شاب قرر أن يتحقق من ماضيه وقد سكن البلدة الريفية نفسها التي أمضت فيها روز طفولتها ثم هربت إليها بعد عودتها ليعثر عليها أعداؤها هناك. ثمة لغز بوليسي إذن، لكن ثمة حكاية أُسرة تُمزّقها الحرب. وثمة قبل هذا وذاك قصيدة سردية كاملة الأوصاف.

يقول ناثانيال "نُنظّم حيواتنا من خلال حكايات بالكاد نمسكها. وكأننا مفقودون في منظر طبيعي محيّر، نَجمَع ما كان خفيّاً وما لم يقل. نحيكه كله من أجل أن نواصل البقاء، غير مكتملين، متَجَاهَلين كسلة الزهور على الشواطئ المُلغمّة أثناء الحرب".

المساهمون