"السنة المفقودة": لفافات في النسيان الأرجنتيني

03 مارس 2016
(بيدرو ميرال، تصوير: فيكتوريا غيسوالدي)
+ الخط -

تحمل الأرجنتين ذاكرة جيّدة من كتّابها الذين أمضوا أعمارهم خلف حواس ناقصة، أو بعيداً عن الأضواء، حيث يقيم النسيان؛ فمن أنطونيو بورشيّا وتركته الوحيدة "أصوات"، إلى وحدة الروائي إرنستو ساباتو في أيامه الأخيرة وهو يرسم، وقد وهن بصره، إضافةً إلى تعاقب ثلاثة أمناء عامّين مكفوفين على المكتبة الوطنية في بوينس آيرس؛ هم: خوسيه ميرمول وبول غروساك، وبعدهم لويس خورخي بورخيس.

هكذا، تكمل رواية الأرجنتيني بيدرو ميرال 1970 "السنة المفقودة" الصادرة حديثاً عن "دار مسكيلياني" (تونس) بترجمة أشرف القرقني، مسيرة النسيان من جهةٍ، والحواس المفقودة من جهة أخرى، عبر الشخصية الرئيسية فيها، الرسّام سالفاتييرّا الأبكم والمعتزل الناس أثراً وحضوراً.

تعظّمت أسطورة سالفتييرّا من صمته، حيث ظل وعلى مدار ستّين سنة يرسم على لفافات قماشٍ ورثها عن الرسّام الألماني الفوضوي هربرت هولت الذي علّمه الرسم الزيتي، إضافة إلى ما كان يحصل عليه من الملاءات البيضاء وأغطية شاحنات التهريب.

يوماً بعد يومٍ، ولستين سنةً، واصل سالفاتييرّا مهمة الرسم بما بدى أنه حكاية لن تنتهي، ليموت أخيراً في البهو الخلفي للحياة من دون أن يجد أحداً يتحدّث عنه أو يطلب حواراً صحافيّاً واحداً.

يحاول ابن الرسام الأبكم، تشي - ميغال، بمساعده شقيقه لويس، إنقاذ الأثر الفني بعد موت الأم، حيث تبدأ الرحلة بزيارة الكوخ المرسم في بارنالكس، وإذ به يجد ستين لفّةً تحكي مسيرة سالفاتييرّا مخبّأة هناك، حيث اعتاد الرسم خلف الأبواب الموصدة. بالتوازي، يسعى الابن إلى لفت الانتباه إلى العمل أمام السلطات المحلية التي خلصت إلى اعتبار اللوحة من الإرث الثقافي في البلاد.

خلال البحث، وجد الابن أن لفافة 1961 لا تظهر في التسلسل. من هنا، تبدأ رحلة البحث عن المفقود من لفافات سالفاتييرّا، حتى يتوقّف العمل عن كونه لانهائياً، "إذا ظلّ قسم من الأثر مفقوداً، فإنني لن أستطيع التعامل معه في كليته ومعرفته في تمامه.. لو أعثر عليها، فسوف يصبح لهذا العالم من الصور حدٌ ما"، يقول ابنه في رحلته خلف النهر إلى الأورغواي.

تحمل الرواية في بعض مفاصلها روح أدب الواقعيّة السحريّة في أمريكا اللاتينيّة، حيث تذكّر رحله الابن إلى بارّنالكس برحلة ماركيز مع والدته لبيع بيت العائلة القديم، في حين تتشابه أجواء المهرّبين فيها بكثير من مشاهد المهربين وقطاع الطرق والغاوتشو عند بورخيس، لكن دون إطالة، إنما باقتصاد للوصف بما يخدم حركة الحكاية.

تهتدي منظمة هولندية إلى العمل بعد رفض الابن أفكاراً تتعلق بتوثيق العمل كرقم قياسي في موسوعة غينيس، فتسيّر باحثين لفحص العمل وجلبه إلى "متحف رويل" في أمستردام، وفي حين تبدأ إجراءات نقل اللفائف إلى هولندا، يواجه الابنان بيروقراطيّة تتعلق باعتبار العمل إرثاً ثقافياً لا يجوز بيعه أو نقله خارج البلاد، بالتوازي مع ذلك تبدأ رحلة الابن إلى الأروغواي، لتتبع أثر صديق قديم لسلفاتييرّا الأبكم، إيبانيز.

بعد طول بحث، يكون الصديق متوفًّى، لكن يجد ابنَ أخيه الذي بالفعل قد حصل على اللفافة، وقايضها مع مالك مزرعة، مات هو الآخر، وإذ يقتحم منزله الكبير والمهجور، يجد العمل المفقود وراء كل هذا النسيان، لفافة تصوّر خيول سباق وهي متوترة قبل الإنطلاق مثل "وحوش غاضبة ومنتصبة" يليها رسم لزميلة الرسام الأبكم سالفاتييرّا في مكتب البريد وهي عارية، معلقة على إحدى جدران الغرف الواسعة.

حين تدنو الرواية من النهاية، يرمي ميرال مفتاح اللغز، بضربة ساعاتي يعرف متى يفكّ الحبكة، حيث يتكشف كل شيء، ومعه يغادر ما تم اكتشافه إلى النسيان مرة أخرى، إذ يشبّ حريق كبير في الكوخ أثناء رحلة الابن إلى ما وراء النهر. وكأن النسيان لعنة لا مفر منها.

المساهمون