"حدَّث أبو هريرة قال": السيرة العجيبة لمخطوط المسعدي

06 ديسمبر 2019
(محمود المسعدي في بورتريه لـ أنس عوض/ العربي الجديد)
+ الخط -

قِصُّة ظهور هذا النصّ من العَدَم تُوشك أن تكون نسجَ خيالٍ لا يَقَع إلا في نادر الدهر. فقد صاغَهُ صاحبُه، محمود المسعدي (1911 - 2004)، قبَيل نهاية 1939، بعد أن دَفعتْه بوادر الحرب العالمية الثانية إلى تَرك باريس سنة 1936، إثرَ حُصوله على الأستاذية في أرْوقة السوربون. ولكنه عاد إليها، على الأغلب، في حزيران/يونيو 1939 لمناقشة أطروحة الدراسات العليا. وكان وقتها قد أتم نصَّ أبي هريرَةَ، "وُرَيْقاتٍ لا يَتَعَدَّى عددُها المائة مكتوبةً بخطٍّ رَتيبٍ جَميلٍ".

ولعله قد أودعَ مخطوطَهُ، في لحظةٍ ما خلال تلك الزيارة القصيرة، صديقًا له يُدعى الحبيب فرحات، من رفاقِ الدراسة و"إخوان الصفا". ولكنّنا لا نَجزم بمكان هذا التسليم، ربما كان في تونس قبَيل سفره، إذ بَدَأ المسعدي بَعدُ العملَ مُدَرّساً بالمَعهد الصادقي، في 1938 حتى 1946. وأيَّا ما كان، فقد التمس منه "النَّظرَ في أمر طبعه بِلُبنان"، وحِمايته من الضياع أثناء عودة المسعدي إلى ديار الوطن بُعيدَ الحصول على شهادته.

فالأكيد أنَّ المخطوط كان في فرنسا صائفة 1940، حين استولت "جحافل من الـمُصفَّحات الألمانية" على باريس يوم 14 حزيران/يونيو وأهانت حكومتها. ارتَبَك الناس ورغبوا في النجاة بأنفسهم. فوَضعت فرنسا، "بعد موافقة السلطات المحتلة، باخرة "مرسيليا" تحت تصرُّف الرعايا العرب توصلهم إلى شمال أفريقيا".

هنا قرّر الحبيب فرحات الرجوع إلى تونس. وفي طريق عودته، تلك الصائفة، التقى في أحد مقاهي مدينة روايا (قريبًا من كليرمون فيران، وسط فرنسا)، ومعه رفيقٌ تونسي ثانٍ، بالطالب اللبناني خليل الجرّ (1913 - 1987)، وتَجاذبوا أطراف الحديث في الأدب والفكر، بل وتلازموا يوميْن أو ثلاثة وسكنوا غرفةً واحدة، لضيق ذات اليد.

هناكَ طفق خَليل ينشدُ شعراً له بالفرنسية. فلما أحسَّ منه الحبيب "سعة اطِّلاع وحَساسية نَفسٍ" أودعه مخطوط "أبي هريرة"، راجياً منه الحرصَ عَليه "حِرصَه على إنسان العين"، لأنه يخشى، إنْ هو حَمَلَه معه في الباخرة، أن يَلحقه التلف إنْ هاجمتها "الغواصات الألمانية" أو تعرضت لبعض "الألغام المبثوثة" في عرض البحار. امتطاها فرحات وفي قلبه حسراتٌ على "أبي هريرة".

ولكنَّه احتَفظَ بعنواني الطالب اللبناني في فرنسا ولبنان على أن يتّصل به بعد أن تضع الحربُ أوزارها، ليرَيا كيفيَّة استرجاع الأمانة. وهذا يعني أنَّ المخطوط بقي في مدارج الجَرّ من 1940 إلى 1946، سنة أوْبته إلى لبنان ومعه شهادة الدكتوراه... والمخطوط بين دفاتره وكُتُبه.

في بيروت، كان المثقف الشاب يقرأ "أبا هريرة" حين يختلي إلى نفسه، ويتلو منه صفحاتٍ أمام مَن يَزوره من "أهل الأدب والفكر"، مِن بلده ومن الزائرين. فأجمعوا كلهم على تقدير الأثر وعلى روعة "أسلوبه الذي فيه شيءٌ من الإعجاز". وهذه أوّل حَياة لأبي هريرةَ.

وفي سنة 1962، أي بعد مضي اثنتيْن وعشرين سنةً، قُدّر لخليل الجرّ الاجتماع بعلي إدريس، وهو باحث تونسي، زار لبنان في "حاجةٍ" له. صدفةٌ أخرى لا يُعرفُ لها معنى أو سابق ترتيب. فَقَصَّ عليه قصة المخطوط وَوَضَعه بين يَدَيْه. فعرف الضيفُ التونسي للتوّ خطَّ محمود المسعدي وأسلوبَه، وقد صار حينها يشغل منصب "كاتب دولة للتربية والتعليم العالي". فما كان منه إلا أن اتَّصل به فأكّد نسبةَ الـمَخطوط إليه. وإننا لنَتَصوَّر فرحة الأديب بالعثور على أولى فلذات قلمه وقد سيقَ إلى تونس.

ومن أشد المفارقات إيلاماً أنّ خليل الجرّ الذي حافظ على المخطوط شهدَ مأساةً في أيامه الأخيرة، حين احترقت مَكتبتُه الخاصة أثناء الحرب اللبنانية، بفعل مقذوفاتٍ. لكأنّ القَدَرَ أراد أن يثأر من مُكابرة أبي هريرة وصمودِه، حين أحرقَ مكتبةَ الرجل الذي حَفِظ أوراقَه وصانَ أسرارَه طيلة عقديْن. أتت نارُ الحرب بِأوارها على ما فيها من مجلداتٍ، وهذا قد يهون، وعلى مخطوطِ مَشروع العمر، وهذا من فواجع الدهر.

ثم هَجد الأثَرُ مجدداً بين رفوف الوزير التونسي الشاب عشرَ سنواتٍ أُخَر، حتى كان خريف 1972، فأصدر منه الطبعة الأولى، عن "الدار التونسية للنشر"، مع مقدّمة وتذييلٍ برسالتيْن تَرويان قصة الكتاب. وفي هذه النسخة أضاف المسعدي فصلاً بعنوان: "حديث الجماعة والوحشة"، كتبه وقتَها، بشهادة توفيق بكار وهو قريبٌ إلى المؤلف ونَقلُه ثِقةٌ. علمًا أنه أصْدَر بعضاً من تلك الأحاديث، وهي من فصول الكتاب، سنة 1944 وسنة 1956 ربما من المسودات التي بقيت عندَه، أو من ورقاتٍ استنسخها بِمَحض المصادفة والاتفاق، بِحسب شهادة محمود طرشونة، أحد أكبر المتخصصين في أدبه.

ولا شك أنّ الدفع الكبير لهذا الأثر كان في ديسمبر 1978 حين قدّم الناقد التونسي توفيق بكار له، معتبراً إياه من "أقوى ما خَلَقَت القريحةُ الروائيةُ وأبعث على الدهش" في الأدب العربي الحديث. ثم اكتسب الكتاب شهرة أكبر حين فرضته وزارة التربية في مقرّرات البكالوريا وحملت تلاميذَها على قراءته وأخَذتْهم بالامتحان فيه.

في ظاهره، ينتمي "حدّث أبو هريرة قال" إلى فنّ الرواية، ولكنه في ذات الآن "امتدادٌ للقصص العربي القديم". تدور أحداثه حول شخصيّة "أبي هريرة"، سميِّ صحابي شهير ونحوي من الثقات، كأنما المؤلف يعابثُ قارئَه بذاك ويكابر. وهو هنا "إنسان قلق متمرّد"، أخرجه صديقه من التقاليد ودعاه إلى خوض مغامرة الوجود واستكناه مَعانيه، فاكتشف اللذّة، ثم طلبَ الغيبة عنها فلم يُدركها، ليدخل بعدها تجربةَ الجماعة والعدد، قبل أن يفنى في المطلق وما وراء الموت. فكان البَعثَ الآخر.

وكما كانت سيرة أبي هريرة سلسلة مصادفاتٍ بين الوجود والعدم، كان هذا الكتاب وليد اتفاقاتٍ وسليل مناسباتٍ، على حافَّة الغياب، قلّما تجتمع معاً، وإلا فما الذي دعا المسعدي أن يسلم "أولى فلذات قلمه" إلى صديق له مهما كانت درجة القربى؟ ثاني المصادفات لقاء الحبيب فرحات بخليل الجَرّ في إحدى مدن فرنسا على طريق العودة. ولولا أبياتٌ من شعر حبَّرها وتلاها ما كان فاتَحَه بأمر المخطوط ولا لمس فيه حسَّهُ الشعري.

وثالث المصادفات حاجةٌ مَجهولة قادَت عليّ الإدريسي إلى لبنان، وفيها حدّثه خليل عن الكتاب فقَطَع بنسبته إلى المسعدي وكان "اليَدَيْن الأمينتيْن" اللتيْن أرجَعتا المخطوط إلى تونس بعد غياب أكثر من عقديْن. فماذا لو أضاعه في مطار بيروت؟ بل وماذا لو أتلفه خليل الجر قبل حمله إلى لبنان أو بقيَ حبيس أدراجه فباعه الورثةُ، أو أتت عليه قذائف الحرب الأهلية كما أتت على غيره من كتبٍ وآثارٍ؟ تلك معجزة أبي هريرة. "كان أعظم من الحياة".


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النشر متأخّر دائماً

لم يكن تأخّر نشر مخطوط "حدّث أبو هريرة قال" في كتابٍ استثناء في مؤلفات المسعدي، فلم يُعرف عن الكاتب التونسي اعتناء بمسألة النشر، حيث حصل الأمر نفسه مع كتابه الأشهر "السُّد"، أما آخر إصداراته "من أيام عمران" فقد جُمعت نصوصه من أوراق مبعثرة في مكتبه الوزاري ومن فواتير وُجدت في بيته. كأن النشر كان آخر أولويات محمود المسعدي، ففي كل مرة لم يكن ليصدر له كتاب لولا جهود أصدقائه وتلاميذه.

المساهمون