كيف يمكن جعل المادة التاريخية شعبية، دون السقوط في الاستسهال والكتابة الخفيفة؟ سؤال يقف أمام كل محاولة كتابة للتاريخ خصوصاً حين تتقاطع مع وسائل واسعة الجماهيرية.
تحضُر الباحثة الفرنسية في التاريخ فيرجيني جيرو منذ سنوات قليلة في العديد من المجلات والبرامج التلفزيونية التي تهتم بالتاريخ، بالإضافة إلى انتظام محاضراتها في "الجامعة الشعبية في كون" (التي أسّسها ميشال أونفري في 2002)، وتأتي هذه الأنشطة ضمن خيار عدم التدريس في المؤسسات الرسمية (خيار أونفري نفسه).
ثمة رافدان أساسيان في كتابات جيرو، هما تاريخ الحضارة الرومانية والدراسات النسوية، وهو ما يمكن استخلاصه بسهولة من الأعمال التي صدرت لها، مثل "أغريبينا" و"المرأة والجنس في روما القديمة". حول هذا التوجّه في الجمع بين دراسة التاريخ القديم والنزعة النسوية، تقول جيرو في حديثها إلى "العربي الجديد": "أعتقد أن جذورَه ذاتية. والدتي برتغالية، وعاشت شبابها تحت دكتاتورية سالازار. ما سمعته منها بلور أمامي إشكالية تعدّد العوائق أمام المرأة، من بطريركية الأسرة وصولاً إلى بطريركية الدولة، ومع تطوّر مساري العلمي صغت ذلك في تساؤل "كيف نشأ هذا الوضع؟"".
تتابع: "لديّ اعتقاد بوجود تواصل بين العصر الروماني وعصرنا الحاضر. صحيح أن وضع المرأة تغيّر بشكل كبير، لكن يبقى النظام العام والعميق بطريركياً". هنا تعتبر جيرو أن صفة "ما بعد الحداثة" التي توصف بها المجتمعات الغربية اليوم لم تمسّ العنصر البطريركي بشكل جوهري.
توضّح ذلك من خلال مثال؛ تقول: "لا تزال المرأة في فرنسا، ومعظم البلدان الغربية، تتّبع طريقة لباس محكومة بنظرة ذكورية، إنها دكتاتورية (الحزام 38)، ومن حجم الحزام - على بساطة المسألة ظاهرياً - يُفرض على المرأة كامل نمط حياتها".
تلفت جيرو أيضاً إلى أن مجتمعات "ما بعد الحداثة" قد تكون بطريركية في بعض النقاط أكثر من المجتمعات التي توصف بأنها ليست في الركب الأول من الحداثة. تشير هنا إلى مقارنة عقدتها فاطمة المرنيسي بين لباس المرأة الشرقية المتحرّر أكثر من لباس المرأة الغربية من النمط الجاهز، حيث إن اللباس في الشرق عليه أن يلائم جسد المرأة كيفما كان، لا أن تلائم المرأة معايير لباس قامت على نظرة ذكورية.
في سلسلة محاضراتها في "الجامعة الشعبية"، كثيراً ما تحدّثت جيرو عن التاريخ كـ"علم ينظر إلى المستقبل"، وهو ما يظهر في كتاباتها، فرغم أنها تعود إلى فترة تاريخية بعيدة نسبياً، إلا أن ما هو راهن يظلّ حاضراً بقوة.
تقول "ما أصبو إليه هو بناء وجهة نظر موضوعية عند كتابة التاريخ، وفي الوقت نفسه تكون شعبية، أي قابلة للتداول وقريبة من مشاغل الناس". تتطرّق هنا إلى الدور الذي تلعبه المعرفة التاريخية في الإلقاح ضد آفات سياسية واجتماعية، من بينها التطرّف والشعبوية، كما حدث في الانتخابات الأخيرة في فرنسا لوقف مدّ اليمين المتطرف.
لكن ألم يكن التاريخ، على الأقل بفضل التلفزيون والإنترنت، شعبياً إلى حدّ كبير دون أن يمنع ذلك من السقوط في الأخطاء نفسها؟ فرغم كل شيء يظل ثمة مدّ يميني في فرنسا وغيرها من البلدان، وصعود لا ينكر للشعبوية، ودروس الفترة النازية حاضرة في الأذهان. تجيب جيرو: "يعود ذلك إلى التناول العاطفي للتاريخ. المسألة تتلخّص في ضرورة جعل التاريخ شعبياً، وفعل ذلك بطريقة جيدة ومنهجية، وليس في إطار محاكمات وتوظيفات".
هذه الرؤية تطبّقها على ما تلاحظه في تناول تاريخ المنطقة العربية في الكتابات التاريخية الفرنسية، تقول "أجد معظم ما اطلعت عليه لم يتحرّر بعد من ثنائية استعمار/استقلال، واليوم ها هو يتأثر بالنظرة السلبية عن الإسلام بسبب أحداث السنوات الأخيرة". تضيف: "أعتبر أن أحد أدوار المؤرخ هو المساعدة في تجاوز مطبّات، مثل إنكار الماضي (المستعمِر) أو البقاء في الماضي (المستعمَر السابق)".