بعضٌ من كثيرك أيها الكاراكاسيّ

05 مايو 2018
"أميركا الأم"، أوفالدو فيغاس/ فنزيولا
+ الخط -

أيها الكاراكاسيّ:

أنت يا مدمن أفراح الفن الشعبي وعدوّ التجريد. في مدينة متوسطية تُيسّر الاستماعَ إلى صعاليكها وتُعسّر على شعرائها عددَ النّسخ، كأنهم أحياء زمن الطباعة بالحجر.

في عدة مقابلات أكدتَ لي أن نفوذك الغارب من نفوذ قارتك الكليمة وبلدك المقتول.

لم تستفد من المعرفة في أوروبا، لأن هذه لا نفوذ لها عليك، ولكن من وجهة نظر مواطنيك، فإن المسألة تختلف.

فنّك مشتت في أرياف وخرابات مدن بلدك.

لأن حياتك المهنية لم تكن ذات وعْد منذ الطفولة. وباعتبارك الطفل الوحيد لامرأة نادلة، لم تستطع تأسيس ما يبقى.

سافرت في جميع أنحاء القارة تقريباً. كنت في سن 12 حين بدأت الرسم، مستوحياً كائنات الأنديز وطمي الأمازون المبهم. كانت دراستك في كاراكاس عديمة المحصول باعتبار عالمك هو دوماً أوسع من مِقعد.

فنانو الحيطان، وصاغة البلاستيك، وشخصيات الحارة المتعلّمون، والصحافيون المبتدئون، من بين جيران ومعارف فنزويليين آخرين، أعربوا عن أسفهم لوفاة الأم والأرملة الكادحة، كما عن الأسى الشديد من "افتقارك إلى إرث".

حدَّ أن أحدهم قال:"تألّمنا لفقدان المناضلة ضد الفقر. لها الشرف والمجد في الأعالي". وأنت أجهشتَ وسألتَني في شارع هيباتا دي ألكسندريا: "شرفٌ ومجدٌ في الأعالي عند ثوريين؟".

أيها الغريب الحبيب إغناسيو: صديق انتصاف الليالي بلا سقف، وشريك الخبزة وقنينة البيرة، وسواهما مما يتكرّم به السبيل.

أحيّيك اليوم، بمناسبة خروجك من عيش غير محقق. آملاً ـ ولن أكفّ عن اقتراف هذا الأفيون ـ بغد أفضل.

لك ولنا ولهم ولهنّ وللجميع، عدا شرذمة مُجمّعي الثروات.

وإن أنس لا أنسى بقاءَك تحلم بكتابة قدّاس للمنبوذين، حيثما كانوا. لكن الموضوع أضخم من قدراتك.

لذا اكتفيت بكتابة بليغاريا مسائية إلى تشي غيفارا، ورفاقه، الذين لم يتمكنوا من لفت انتباه السفينة كي تنقذهم بقطعة قماش حمراء.

وأنّ ما يمنحك بعض العزاء، أنه، وإن كان العازفون المنفردون يقلِّون، فإنما الكورال، على العكس، لا يحصيهم عدد.

فكيف لأمثالي نسيان كل ذاك النبل الكاريبي؟

ألا تلاحظ معي يا إغناسيو الحَيّ؟ لكَم مقنعٌ الشيوعيُّ آنَ يتكلم عن ضحايا الثروة لدى طغمة من اللاناس.

ومع أنه مكلفٌ ذلك الخوضُ في الروح والمعاناة الإنسانية، مع نفاد السجائر، إلا أن الواحد يجب أن يُفضفض. أما الموت، باستثناء موت الأقربين والشهداء، فلا يحتاج إلى مزيد تأويلات.

الموت حَدَثٌ فحسب. خصوصا أن أمثالنا خبِروا جيداً الإحساسَ برذاذه قبل أن تغمر الموجة.

أتذكّرك الآن في ذلك الفجر الآذاري، ونحن في الرابال، مقتعدينَ قِطَّ باتيرو:

لم تحتمل المتشردةَ الإنكليزية الحسناء. كانت تقذف الحقائق ببرودة كاتب عدل أو عالِم حشرات.
وأكثر ما أخرجك عن طورك هو سؤالها الأغبى: "ربما يكون هذا التمساح أفضل؟" (تقصد "ترامب").

ـ أفضل يا حمقاء؟ وقمتَ غاضباً.
أجل، هذا بعضٌ من كثيرك أيها العزيز.

*شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة

المساهمون