يحدُث في عالم النشر

26 يوليو 2019
لوحة لـ دانيال كلاسه
+ الخط -

اسمحُوا لي البدءَ بقضيةٍ أراها مُهمَّةً، وأُحبُّ الحديثَ عنها: تأسَّست عمليةُ النشرِ في العالمِ العربيِّ، ونشأتْ وتربَّتْ في كنفِ سياقاتِهِ الثّقافيّةِ والمعرفيةِ، وكما نعرفُ جميعاً، فنحنُ نتحدَّثُ عن سياقاتٍ، تنطوي على الكثيرِ من الإشكالياتِ، وذلك بحُكمِ أنها جزءٌ من تاريخِ المكانِ نفسِهِ وتطوُّرِهِ.

لم يكنْ من الممكنِ - بأيِّ حالٍ من الأحوالِ - أن يسهمَ أيُّ نشاطٍ ضمنَ أُطُرِ إنتاجِ المعرفةِ في تطويرِ وخَلْقِ حالةِ وعيٍ عربيٍّ، فما بالُنا بعمليةِ نشرِ الكُتُب! وهي - بالمناسبة - أصغرُ عمليةٍ في مهنةِ النشرِ، التي ترتكزُ أساساً على نشرِ الصحفِ والمجلّاتِ والمطبوعاتِ الدّوريّةِ بشكلٍ عامٍّ، كما يقولُ التعريفُ العامُّ للنشرِ في العالمِ. وهذه العمليةُ ارتبطتْ دائماً في بلدانِنا العربيةِ بالحكوماتِ نفسِها، التي يرجعُ لها تخريبُ المجالِ العامِّ في العالمِ العربيّ كلِّه، كما نعلمُ.

النشرُ عملٌ جماعيٌّ في الدرجةِ الأولى: عمليةٌ تتمُّ من خلالِ علاقةٍ بين الكاتبِ والناشرِ والقارئِ. لا ننسى الآن أننا ما زلنا نعيشُ مع الذين تربّوا في أحضانِ الدولِ الفاسدةِ والدّكتاتوريّةِ، التي لم تُربِّ عندنا إلا تلك العلاقاتِ القائمة على المحسوبياتِ والفسادِ خارجةً عن أيِّ قِيَمٍ أخلاقيةٍ وبروتكولاتٍ طبيعيةٍ ناظمةٍ لأيِّ مهنة.

أجيالٌ كاملةٌ تربَّتْ تحتَ تلك الأنظمةِ وتحتَ نُظُمِها التّربويّةِ التي نعرفُها جميعاً هنا، ومن هذه الأجيالِ، ظهرت النسبةُ الكبرى الآن من الكُتَّابِ والناشرين، وحتَّى القُرَّاء. ما أريدُ قولَهُ إننا علينا أن نتذكَّرَ دائماً أن أيَّ حديثٍ هنا يتحدَّثُ عن تاريخٍ كاملٍ من الرداءةِ، خيَّمَ على العالمِ العربيِّ من شرقِهِ وحتَّى غربِهِ.

عالمُ النشرِ الصغيرِ الذي هو عالمُنا لم يَسْلَمْ من هذا التاريخِ بالطبع. لذا نتجت الكثيرُ من النُّظُمِ الرديئةِ في كلِّ فرعٍ من فروعِ عالمِ النشرِ هذا. وبالطبع هذه خَلَقَتْ علاقاتٍ مرتبكةً، نُواجِهُها كلّ يوم في أيّامنا هذه.

هل هناك بالفعلِ تقاليدُ للنشرِ في العالمِ العربيِّ؟
صديقٌ يتعرَّفُ على مجموعةٍ من الكُتَّابِ، ولديه القليلُ من المالِ، ويسمعُ أصدقاءَهُ يتحدَّثون عن مشاكِلِهِم مع الناشرين، فيفتتحُ داراً للنشرِ.
كاتبٌ ميسورُ الحالِ ينشرُ كتاباً مدفوعَ الحالِ، فيظنُّ أن ناشرَهُ رَبِحَ منه أموالاً طائلةً، يُقرِّرُ في الكتابِ القادمِ أن يُصبحَ هو الناشرَ.
صاحبُ مكتبةٍ يرى أنه باعَ من كتابٍ لناشرٍ ما ثلاثين نسخةً، فيفكِّرُ: إذا أنا فقط اشتريتُ من هذا الكتابِ ثلاثين نسخةً، وهناك ألفُ مكتبةٍ في العالمِ العربيِّ، هذا يعني أن هذا الناشرَ باع على الأقلِّ ثلاثين ألفَ نسخةٍ من هذا الكتابِ. اللعنة! سأصبحُ ناشراً، إذنْ...
ونماذجٌ لا تنتهي من هذا القبيل.

في الحديثِ عن سوقِ الكتابِ في عالمٍ مثل العالمِ العربيِّ، يُمكنُنا الحديثُ حتَّى الصباحِ، وفي الحديثِ عن الكُتَّابِ أنفسهم وآلياتِ الدولِ العربيةِ في دَعْمِ النشرِ، وعن معارضِ الكتابِ ولجانِ الشراءِ والمكتباتِ العامَّةِ وحُقُوقِ الكُتُبِ والكُتَّابِ المقرصنةِ على الشبكةِ العنكبوتيةِ والمُستنسخةِ؛ لتُباع على الأرصفةِ، كأنها ورقٌ رديءٌ. و و و....

عن أيِّ علاقةِ كاتبٍ بناشرٍ نتحدَّثُ الآن؟ أو عن أيِّ عمليةِ نشرٍ نتحدَّثُ؟
شخصياً سأتحدَّثُ عن أشياءَ أُحبُّها، تدفعُني للأمل! وليعذرني الروائيّون الموجودون في هذه القاعةِ، فقد رأيتُ أننا في "ملتقى للروايةِ"، لذا قرَّرتُ أن أتكلَّمَ مُستخدِماً الحكي:

منذُ أيّامٍ قليلةٍ، كنتُ جالساً مع صديقَتَيْن إيطاليَّتَيْن في مقهانا في الحَيِّ الذي نسكنُهُ في مدينةِ ميلانو الإيطالية، وفي أثناءِ تبادُلِ الحديثِ عن الأخبارِ الذاهبةِ والأخبارِ القادمةِ، قدَّمَ لنا النادلُ زجاجةً من "خبرِ سفري لفلسطين"، للمشاركةِ في ملتقى الروايةِ هذا، للحديثِ عن علاقةِ الناشرِ بالكاتبِ. تعمل صديقَتَاي كلتاهُما في قسمِ التسويقِ لدارِ النشرِ الإيطاليةِ الكبرىِ "موندادوري"، وكلتاهما مُتورِّطتان بعلاقةٍ مع كاتبٍ، الأولى مع فيلسوفٍ، والثانيةُ مع شاعرٍ.

ما إنْ سمعَتَا عن موضوعِ الندوةِ حتَّى انفجرَتَا ضحكاً، ولكنْ، لحُسنِ الحظِّ أن انفجارَهُما لم يدمْ طويلاً. فواحدةٌ منهما تضحكُ ضحكةً صريريةً، تنفذُ إلى العَظْمِ، فتجرحُهُ. وبالفعل، فإن الضحكَ لم يدمْ طويلاً، لأن كأساً ممتلئةً سقطتْ عن الطاولةِ، جرَّاءَ ضحكتِهَا بلا شكٍّ.

بعد ترتيبِ الطاولةِ، توجَّبَ عليَّ أن أسألَ عن سببِ ضحكِهِما، ولكني كنتُ خائفاً من أن تعودَ صديقَتي للضحكِ مجدَّداً. ولحُسنِ الحظِّ، بادرتْ هي بالحديثِ عن الأسبابِ، وقالت: مثيرٌ هذا الموضوعُ، يا خالد، فهو تماماً تُمكنُ تسميتُهُ بالعلاقةِ بين طرفَيْن، يشعرُ كلُّ واحدٍ منهما بأنهُ ضحيةٌ: الكاتبُ يشعرُ أنه ضحيةُ الناشرِ، والناشرُ يشعرُ أنه ضحيةُ القارئِ. فنجرتُ أنا عينَيَّ، ونظرتُ إليها مدهوشاً. واصلتْ: فالكاتبُ يظنُّ أن الناشرَ يحتالُ عليه، ولا يُخبرُهُ بتفاصيلِ المبيعاتِ الحقيقيةِ لكتابِهِ، والناشرُ يظنُّ أن القُرَّاءَ أغبياءٌ، لأنهم لا يشترون كُتُبَهُ التي تَعِبَ وتكلَّفَ كثيراً لإصدارِها، بل يذهبون لشراءِ كُتُبٍ من دُورِ نشرٍ أخرى. وبدأتْ تتحدَّثُ وتتحدَّثُ عن أسبابٍ وأشياءَ وأرقامٍ في "الماركيتنغ" (التسويق) لا طاقةَ لي بها أبداً، وزادَ الطينَ بلَّةً أن صديقَتَنَا الأخرى انضمَّتْ لها، وأكادُ أُقسمُ أنهما لا تزالان تتحدَّثان حتّى هذه اللحظةِ التي أنا فيها بينكُم.. لذا أتركُهُما الآن تُواصِلان حديثَهُما، لأتحدَّثَ أنا:

في الحقيقةِ ما فنجرَ عينَيّ في الأمرِ أنهُ: حتّى في إيطاليا توجدُ هذه الإشكاليةُ! لكني أظنُّ من تحليلي العامِّ لما علقَ في رأسي من أرقام "الماركيتنغ" التي تحدَّثَتَا بها أن الكاتبَ في البلادِ الإيطاليةِ، والذي ينشرُ في دُورِ النشرِ الكبيرةِ لديهِ مشكلاتٌ تتعلَّقُ بعشراتِ آلافِ اليوروهاتِ، والذي ينشرُ في دُورِ النشرِ الصغيرةِ، فمشاكلُهُ لا تتجاوزُ المئاتِ منها، ولا مجالَ هنا للمقارنةِ مع أرقامِ الماركيتنغ المتعلِّقةِ بالكاتبِ العربيِّ. لكنَّ الأهمَّ أن المشكلةَ موجودةٌ. وبما أني هنا لستُ في صددِ المقارنةِ بين النشرِ في العالمِ العربيِّ والنشرِ في العوالمِ الأخرى، لكني لا بدَّ أن أعترفَ أن هناك قاسماً مشتركاً في هذه الإشكاليةِ. أحاولُ فَهْمَهُ معكم، وأحاولُ فَهْمَ من أين تبدأُ المشكلةُ نفسُها.

لذا اسمحوا لي بالنمذجةِ على كاتبٍ معروفٍ نوعاً ما، وعن ناشرٍ لا يتقاضى منه مقابلاً مادّيّاً للنشرِ. يُكمل كاتبُنا "النموذجُ" هذا كتابةَ مخطوطِهِ، ويرسلُهُ للناشرِ، يجيبُ الناشرُ (المحرّرُ) عليه باستلامِ المخطوطِ، وبأنه سيقرؤُهُ، وسيردُّ عليه قريباً. ومع أن كاتبَنا يعرفُ أن كتابَهُ سيُنشَرُ، وأنه ليس في موضعِ تقييمٍ، لكنَّ القضيةَ تظلُّ مُزعجةً إلى حدٍّ ما. فأنا كاتبٌ مهمٌّ، وأهمُّ من هذا المحرِّرِ الحمارِ الذي سيقرأُ كتابي، ليعطيَني تعديلاتهِ وآراءَهُ ... (لا، لا، عفواً، أخطأتُ، فأنا أتحدَّثُ عن النشرِ العربيِّ، ولستُ في إيطاليا، فلا محرِّرَ يعطي ملاحظاتٍ، ولا بطّيخَ لحُسنِ الحظِّ طبعاً) نعيدُ التسييق: لماذا يجعلُني هذا الناشرُ أنتظرُ؟ يريدُ أن يوهمَنِي بأنه يقرأُ كتابيَ؟ مَنْ هو أساساً حتّى يقرأَ كتابيَ أنا! أنا أنا أنا أنا أنا، ولكنْ، بعدها يعودُ ويقولُ: هو الناشرُ. عليَّ أن أنتظرَ! بعد مدّةِ انتظارٍ طويلةٍ جدّاً، تزيدُ عن ثلاثةِ أيّامٍ، يبدأُ الكاتُب بمراسلاتٍ للناشرِ من نوع المَسِجَات:
اليومُ الأوّلُ: لا والله، حبِّيتْ إتطمَّنْ عليك!
الناشرُ يجيبُ: حبيبي .. تسلَم.
اليوم الثاني: .. كيفك، يا رجل؟ والله اشتقتلك.
الناشرُ يجيبُ: حبيبي .. تسلَم.
اليومُ الثالثُ: قاعد أنا وسعادة الأمير أو الوزير وبحبّ أعرفك عليه.
الناشرُ يجيبُ: حبيبي .. تسلَم.
اليوم الرابع: مبارح حكيتْ لسعادتو أن دارك أفضل دار حالياً.
الناشرُ يجيبُ: حبيبي .. تسلَم.
اليومُ الخامسُ: كيفك، يا رجل؟ والله اشتقتلك.
الناشرُ يجيبُ: حبيبي .. تسلَم.
اليومُ السادسُ: عزيزي، أنا رح أشتري مئة نسخة من الكتاب. بتعرف أنا بحتاجهم للأصدقاء الفقراء الي ما عندهم قدرة يشترون كُتُب، وللصحافة حتّى يكتبوا عنه.
الناشرُ يجيبُ: حبيبي .. تسلَم.
اليومُ السابعُ: بتعرف إنُّو سعادتو وعدني بدَعم كتابي حين يصدر، وسيشتري أربعمئة نسخة من الكتابِ دعماً له.
الناشرُ يجيبُ: قرأتُ كتابَكَ.. إنه كتابٌ رائعٌ، يا رجل، وسننشرُهُ بالطبع.
يفرحُ الكاتبُ، ويرتاحُ، ويتركُ الناشرَ لأسبوعٍ، ثمّ يُعاوِدُ المسجات، لكنْ، بوتيرةٍ أقلّ نوعاً ما.
تحيّاتي أبو النشور .. كيفك؟ ـ إمتى قرَّرت تنشر الكتاب؟... ـ لا لا، كثير، يا رجل، القُرَّاء يراسلونني كل يوم بانتظار الكتاب. ـ أنا دُعيتُ لمعرض كتاب كذا، ويريدون الاحتفالَ بكتابي الجديدِ هناك ... جمهوري كبيرٌ جدّاً، وعليكَ أن تُحضرَ خمسمئة نسخةٍ من الكتابِ في يومِ التوقيعِ.

الناشرُ يقولُ له: يستحيلُ ذلك، فالوقتُ لا يكفي.
الكاتبُ يجيبُ: اشحنْ الكمّيّةَ جوَّاً، يا رجل (dhl) فهو أسرعُ ومضمونٌ. الجمهورُ متلهِّفٌ لاقتناءِ الروايةِ. انظرْ: هذه الرسالةُ من أحدِهِم: يُرسلُ للناشرِ سكرين شوت من تلفونِهِ لرسالةٍ من أحدِهِم تقولُ: أحلمُ كلَّ يومٍ بصدورِ كتابِكَ الجديدِ، وقرّرتُ أن أشتريَ منه عشر نسخٍ، أهديها لأصدقائي جميعِهِم. أنا أعبدُ كتابتَكَ، يا رجل.

يقتربُ وقتُ المعرضِ. ينتقلُ الكاتبُ من مرحلةِ المسجاتِ إلى مرحلةِ الاتِّصالِ المباشرِ: يتَّصلُ في أوقاتِ الدوامِ: الناشرُ لا يُجيبُ! يتَّصلُ الكاتب مجدّداً.. الناشرُ لا يُجيبُ.. يتَّصلُ.. لا يُجيبُ.. يتَّصلُ.. لا يُجيبُ.. يتَّصلُ، يُجيبُ الناشرُ:
ألو .. ماذا هناك؟!
الكاتب: أبو النشور حبيبي، كيفك؟.. بدي أقلّك شيء مهمّ جدَّاً .. في تعديل صغير، ولكنه جوهريّ في بنيةِ النَّصِّ في الكتابِ، وانتبَهَ له أحدُ الأصدقاءِ الذين طلبتُ منهم قراءةَ المخطوطِ.. فالفصلُ الرابعُ من الكتابِ يبدأُ بجملةِ: كانت الجَدَّةُ تخبزُ الخبزَ كلّ صباحٍ. يجبُ تعديلُها إلى: كلُّ صباحٍ تخبزُ الجَدَّةُ الخبزَ.

يُجيبُ الناشرُ: إنها الثالثةُ صباحاً، أبو الكتوب. اللعنة عليك وعلى جدّاتك كلهن.
المهمّ، تجري الرياحُ بما تشتهي السُّفُنُ، ويحينُ صُدُورُ الكتابِ، ويُعلَنُ عن صُدُورِه، والمشهدُ التالي سيكونُ مشهدَ الختامِ:
كاتبٌ جالسٌ مع ناشرِهِ وكُتُبه وبين أصدقائِهِ الفَرِحِين به، أتوا، خمسون ربّما، وخمسون بالمئةِ منهم يباركون ويسألون الكاتبَ ـ لكنَّ عُيُونَهم تنظرُ صوبَ الناشرِ: بكم الكتابُ للأصدقاءِ المُقرَّبين.
يشيحُ الناشرُ بوجهِهِ جهةَ اليمينِ، أمّا الكاتبُ، فيشيحُ بوجهِهِ جهةَ اليسارِ.


* ناشر فلسطيني سوري ومدير "منشورات المتوسط" في إيطاليا، والنص شهادة قُدّمتْ في "ملتقى الرواية العربية" الذي عقد مؤخراً في فلسطين المحتلة

دلالات
المساهمون