كمال بُلّاطه: فلسطين قارباً ومرساة

19 اغسطس 2019
(بُلّاطه في مرسمه)
+ الخط -

أيامٌ يوشّحها الحزن منذ غادرنا كمال بُلاطه، هذا الفنان والكاتب والناقد والمؤرخ الذي شكّل بفنّه الجريء وأدبه الغني ونضاله بالريشة والقلم حالةً وأنموذجاً فريداً من العطاءِ والزخمِ الإنساني والوطني والفكري والثقافي.

غادرتَنا بجسدك، لكن الذاكرة لن تنسى، والزمان والمكان كذلك، من ربطَتني وعائلتي به علاقةٌ صداقة متينة وراسخة، علاقةٌ قامت على أسسٍ من الاحترام وتبادل الرأي والفكر والمعرفة، صداقة امتلأت بالألوان والصور والكلمات، صداقة اتخذت من الوطن قارباً ومرساة، ومن المنفى شوقاً وحنيناً للقدس وحاراتها وأزقتها.

في كلماته، وأنفاسه ونظراته تجلّت مدينة القدس حيث وُلد عام 1942 وتعلّم الرسم في مرسم الفنان المقدسي خليل حلبي في حي "باب الخليل"، وفي المهجر والغربة واصل حياته بعدما وقف الاحتلال في وجه عودته إلى مدينته التي يعشق، فكان ذلك الفنانُ والناقد والمؤرخ مثالاً للانتماء والإخلاص؛ حيث ارتقى بهويته الوطنية ونهض بها نحو تطوير إبداعي واستشرف بها المستقبل وارتقى بالحركة الثقافية الفنية والفكرية والنقدية.

استطاع بُلّاطه بريشته وقلمه أن يدمجَ ما بين الإنسانيةِ والوطنيةِ، والشجاعةِ والتعاطفِ، والجرأةِ والتواضعِ، والحنينِ والإخلاص، حافظ في جميع مواقعه وأدواره على زخمِ الكلمة والصوت، وصلابةِ الموقف، وقوةِ الإرادة، ووضوحِ الرؤيا، وعمقِ الإدراك.

وجّه الراحل الكبير كمال بُلّاطه بوصلته نحو الوطن، وتصدى لسياسة الاحتلال القائمة على التشويه والسرقة والتزوير، وساهم بمنجزاته الفنية وأعماله النقدية في ترسيخ الهويةِ وتطوير الوضع الثقافي والفني والنقدي عالمياً.

عهدناه إنساناً وفياً متواضعاً متألقاً صلباً محارباً بريشته وقلمه، قوي الإرادة والانتماء مندفعا نحو الحب والحرية، عاصرنا روحَه بصدقها وحلاوتها وطيبها.

كمال بُلّاطه، ستفتقدك القدس بأسوراها ورائحتها، سنفتقد ريشتك التي طالما جسدت عبق الماضي وأحلام المستقبل ورسمت بخيوطها مدينتنا المنكوبة بالتهويدِ والتزويرِ المتعمّد لهويتها وتاريخها وتراثها.

كمال بُلّاطه المختلف في زمن تشابهت فيه الوجوه، فأنت لم تمر في هذه الحياة مرور الكرام؛ بل أحدثت تغييراً وخلقت وعياً لتصل إلى أسمى ما يمكن أن يصبو إليه الإنسان من صياغةِ حياةٍ ذاتِ معنى وقيمةٍ واستمراريةٍ.


* أكاديمية وعضو اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير الفلسطينية

المساهمون