يقدّم المؤرخ الأميركي هوارد زن في كتابه الضخم "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" تاريخاً آخر يمكن القول إنه تاريخ الناس الذين أهملهم كتاب التاريخ.
وقد يكون في هذا الكتاب الكثير من التفاصيل التي لا تهمّنا، ولكن الهام فيه أكثر من ذلك. إذ اختار هوارد زن أن يكشف "عما تم إخفاؤه من أحداث الماضي" حيث "أظهر الناس قدرتهم على المقاومة والتلاحم والتضامن" كما يقول في مقدمته.
وطريقته في الكتابة لا أن يحكي عمن أهملهم التاريخ، بل أن يدعنا نقرأ تلك الشهادات التي سجلوها وهم يصنعون مصائرهم. فهم "الهنود الحمر" من قبيلة أراواك، وغيرها من القبائل، الذين أبادهم كولومبس والمستعمرون البيض أو كادوا، وهم الأفارقة الذين اختطفهم أحفاد أولئك القتلة من أرضهم واستعبدوهم، وهم النساء اللواتي عانين ظلم الرجل وعبوديته، كما هم الكتّاب الذين ترجموا هموم الناس في مؤلفاتهم الروائية، مثل ابتون سنكلير وجاك لندن.
ويلاحظ هوارد زن أن العمّال الأميركيين لم تخدعهم شعارات الوطنية التي تسبغها الرواية الرسمية على حروب أميركا. ولكي تعرف الرواية الأخرى عن ازدهار التصنيع، ابحث عن وجهة نظر العاملات اللواتي تمّت التضحية بهن من أجل الرأسمالية. وهو يضمّ تاريخ النساء، والتاريخ من وجهة نظر النساء إلى سرده التاريخي، حيث يقدّم شهادات العشرات من النساء اللواتي تعرضن للقهر والاغتصاب والعبودية في التاريخ الأميركي، إلى جانب أولئك اللواتي خضن أو قدن تمرّدات كبرى ضد سلطة الرجل.
المعتاد أن نقرأ تاريخ القادة والعظماء والأباطرة والملوك وغيرهم. هذا هو المشهد المرئي لنا منذ أن بدأنا القراءة وتصفّح كتاب التاريخ في المدارس والجامعات. بينما ينقُضُ تاريخ زن المقولة القائلة بأن هؤلاء هم الذين يصنعون التاريخ، وتاريخه ليس تاريخاً للمغلوبين تماماً؛ إذ لم ير التاريخ في منظور المعركة، بل من منظور الراوي، أو من منظور الناس الذين يسعون لمقاومة الظلم ومحاولة التغلّب عليه، ويروون ذلك في سيرة حياتهم وفي كتاباتهم. ففي كل فصل من فصول الكتاب يستنطق المؤرخ أولئك الذين تغاضى التاريخ عن كلماتهم.
ويمكن اعتبار هذا الكتاب محاولة لاختراق التلفيق القومي للهوية، كما أشار إلى ذلك إدوارد سعيد في مقالة قديمة سبقت ترجمة كتاب زن إلى العربية، حيث يستمد المؤرخون الأميركيون مضمون تلك الهوية من "الانتصارات" التي حققتها أميركا في تاريخها، ابتداء من تفوّقها على السكّان الأصليين لتلك الأرض، وانتهاء بآخر شعب غزت الولايات المتحدة أرضه.
وربما يضع ذلك المؤرخَ العربي أمام السؤال عن التاريخ والهوية. فما الهوية العربية في التاريخ والحاضر؟ هل هي تاريخ الحكّام والملوك أم هي تاريخ الناس؟ هل تُستمد تلك الهوية من معارك التحرير ضد الاحتلالات الأجنبية، أم تؤخذ من تاريخ الاستبداد الذي عانت منه الشعوب العربية طوال تاريخها؟ أين تكمن هويتنا؟ في حطين وعين جالوت، أم في المذابح التي ارتكبت في السنوات السبع الماضية في العشرات من المدن والبلدات السورية؟ أم إنها حاضرة في كلا الأمرين؟