حصاد القاهرة 2016: لا طحين ولاسكّر

03 يناير 2017
(غرافيتي في القاهرة، تصوير: جيني ماتيوس)
+ الخط -

يبدو مكرّراً الحديث عن راهن الثقافة المصرية في عامها المنصرم باعتبار أننا "نسمع ضجيجاً ولا نرى طحناً"، خصوصاً مع تضاؤل الأدوار الطليعية للمثقفين لأسباب تتعدّد بين سيولة الإنتاج الثقافي ذاته ومشاعيته التي غذّتها ووسّعت من حدودها التقنيات الحديثة، وبالتالي أعادت رسم مستويات التأثير للفاعلين الثقافيين.

من جهة أخرى، فإن حدود هذا الدور في الثقافة المصرية تقزّمت إلى حدّ أن يُفتتح العام المنصرم بحبس الصحافي والكاتب أحمد ناجي، من دون أن يخرج دور الوسط الثقافي عن الاجتماعات والتنديدات (الصادقة بالتأكيد) ومن غير فاعلية حقيقية للضغط من أجل الإفراج عنه، وخصوصاً أنه أدين بتهمة أخلاقية فضفاضة تخصّ صلب كتابته الروائية.

الأخلاق المحافظة ذاتها واجهها الباحث في الشريعة إسلام بحيري الذي أدين بتهمة ازدراء الدين الإسلامي وحُكم عليه بالحبس، لكنه إذ يخرج بنهاية العام قبل نهاية مدته بأربعين يوماً في "عفو رئاسي" عن بعض الشباب المحبوسين، فإنه يغازل النظام الحاكم بالادّعاء أنه يواجه السلفيين والإخوان المسلمين وحده بصدرٍ عارٍ، بحسب ما صرح لأحد البرامج التلفزيونية، وفات هذا "التنويري" أنه حُبس على يد النظام الذي تغزّل فيه.

بالمقابل فإن ناجي، الذي تواترت آراء تقول إن حبسه جاء على خلفية مقالاته السياسية المناهضة للنظام لا تلك التهمة الواهية المتعلّقة بكتاباته التي "نفث فيها شهوة فانية ولذّة زائلة، وأجّر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكاً لحرمة الآداب العامة، وحسن الأخلاق، والإغراء بالعهر خروجاً على عاطفة الحياء"، بحسب بيان النيابة العامة، خرج بعد حكم قضائي بتعليق حبسه لحين الفصل النهائي في القضية. ومن المثير للسخرية أن القرار بخروج ناجي صدر في اليوم العالمي للغة العربية، التي أدين بانتهاكها وخدش حياء المواطنين عبرها.

الوسط الضاجّ بنكوصه وأخلاقياته رفدته مياه أتت من خارجه، فقد حلّ ضيفاً على القاهرة الأكاديمي الفرنسي توماس بيكيتي لتوقيع كتابه الأشهر "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" في طبعته العربية الصادرة عن "دار التنوير". أعطى بيكيتي محاضرتين في جامعتي "القاهرة" و"الأميركية" حضرهما المئات، وبدا فيهما نجماً غنائياً لا صاحب كتاب يختصّ بالاقتصاد، حتى أن من قدّمت أشارت إليه باعتباره "نجماً في الاقتصاد، وماركس الجديد".

كذلك أتت محاضرة الباحث الفرنسي آلان غريش في القاهرة في لحظة شديدة التعقيد، حيث تزامنت مع تفجيرات في مدن أوروبية، وعلى الحدود المصرية الشرقية. طرح الباحث ذو الأصول المصرية رؤيته لعلاقة أوروبا الراهنة بالإسلام والمسلمين، في محاولته لتفكيك أصول "التهديد الإسلامي" المفترض عبر النفاذ إلى العقل الغربي، وخصوصاً بلده فرنسا. وخلص خلافاً لكثيرين - من بينها أصوات عربية - إلى أن مآلات الوجود الإسلامي في أوروبا لا يمكن لها أن تُفهم إلا خارج مساحات الدين وإشكالياته.

يمكن الحديث عن بعض الإصدارات اللافتة في العام الماضي؛ من بينها، "ذبابة في الحساء"، السيرة الذاتية للشاعر الأميركي تشارلز سيميك التي ترجمتها الشاعرة المصرية إيمان مرسال وصدرت عن "الكتب خان"، فيما لم ينته العام إلا وأعادت "دار الشروق" إصدار الأعمال النقدية للروائية الراحلة رضوى عاشور بعنوان "مجموعة الدراسات النقدية"، والتي تشمل "الطريق إلى الخيمة الأخرى، دراسة في أعمال غسان كنفاني"، و"التابع ينهض، الرواية في غرب إفريقيا"، و"صيادو الذاكرة، في النقد التطبيقي".

تواجه "دار الشروق" اتهاماً متواتراً باعتبارها المسيطرة على سوق النشر في مصر، إضافة إلى تحاشيها المراهنة على أسماء جديدة، وإهمالها الكلّي لطباعة الأعمال الشعرية، وتفضيلها الاتكاء على الأعمال الأكثر مبيعاً لبعض كتّابها، لكن يُسجل لها إعادة طباعتها بعض الأعمال المهمة لكتّاب جيل الستينيات، كما هي الحال مع أعمال عاشور النقدية أو كتابات إبراهيم عبد القادر المازني.

أمّا "دار الكرمة" التي تأسست عقب ثورة 25 يناير، فاضطلعت بدور يمكن وصفه بإمساك العصا من المنتصف، إذ تقدّم أعمالاً من فئة الأكثر مبيعاً، وتعيد طباعة بعض الأعمال البارزة لكتّاب من فترات مختلفة تحت عنوان "مختارات الكرمة"، وكذلك تقدّم ترجمات للمرة الأولى في اللغة العربية، أبرزها في العام الفائت رواية "سالباتييرا" للروائي الأرجنتيني بيدرو مايرال، وكذلك للكاتبة الإيطالية نتاليا جينزبورج في رواية "أصوات المساء".

في سياق آخر، جاءت غيابات هذا العام في الوسط الثقافي فاجعة لكثيرين، ومتفاوتة في ردات فعلها، فقد رحل الروائي علاء الديب، صاحب أبرز الأعمدة الصحافية في مصر التي تحمل عنوان "عصير الكتب"، في شباط/ فبراير الماضي، كما رحل في تشرين الأول/ أكتوبر الفنان جمال قطب، الرسام الأشهر لأغلفة روايات نجيب محفوظ في طبعاتها الأولى عن "مكتبة مصر"، وفي ديسمبر/ كانون الأول رحل الروائي أبو المعاطي أبو النجا، الأقل حضوراً وصيتاً في الوسط الثقافي ذاته، وتبعه الفنان التشكيلي جميل شفيق الذي عمل نحاتاً ورساماً صحافياً ويعد من أبرز الوجوه التشكيلية في جيل الستينيات، وأخيراً رحل الكاتب فخري لبيب صاحب ترجمة "رباعية الإسكندرية" لـ لورانس داريل.

كما شهدت القاهرة تظاهرتين في أروقة "المجلس الأعلى للثقافة"، وهما: "الملتقى الدولي للترجمة" في دروته الثانية التي حضرها 54 مشاركاً معظمهم من المصريين، وبينما تنوّعت محاوره، بدا أن هذا التنوّع يصبّ في خانة التفاؤل المفرط لا التركيز على تفعيل لتوصيات طموحة تتواءم مع عنوان هذه الدورة "الترجمة مشروعا للتنمية الثقافية".

أما ثاني هذه التظاهرات فكان "ملتقى القاهرة للشعر" في دورته الرابعة التي صاحبها لغط كبير، لم يقف عند الصراع المعلن بين لجنته التنسيقية وإدارة "المجلس الأعلى للثقافة"، وإنما بسبب سيطرة الأسماء القديمة ذاتها على أموره التنظيمية أو على قوائم المشاركة، ولم تخرج جائزته عن إطار المتوقع، إذ نالها الشاعر المصري محمد إبراهيم أبو سنة، في ترسيخ لعادة الملتقى في أن تمنح جائزته بالتبادل لأحد الأسماء المصرية عاماً ولاسم عربي في العام التالي.

الختام الطقوسي للفعاليات الرسمية في مصر لا يصح اعتباره وسما للعام الثقافي بعمومه، ذلك أن ختام العام بالإفراج عن أحمد ناجي، بالمفارقة الأكثر سخرية في يوم الاحتفال باللغة العربية، التي شبعت هي الأخرى من الكهنوت، ربما يقول شيئا ما عن الجديد الذي يصارع - لا القديم - وإنما الكهنوت الثقافي الذي يمثله.



دلالات
المساهمون