في أوائل خمسينيات القرن الماضي، في عام 1958 تحديداً، صدر في القاهرة عن "دار المعرفة" كتاب "الأسس الفنية للنقد الأدبي" لأستاذ الأدب الشعبي والفولكلور عبد الحميد يونس (1910 - 1988)، وفيه ملامح أول تقديم في اللغة العربية لفكرة عودة اللغات الفنية مهما اختلفت وسائل تجسيدها، إلى أم واحدة، ليست اللغة ولا الألوان ولا الأصوات ولا الحجارة، بل هي الإيماءات والحركات الجسدية االتي يمثلها فن الرقص القائم على الحركة والإيقاع، بالإضافة إلى فكرة أن "الأثر الفني ليس هو الصورة المحسوسة من لحن ورسم وتمثال وقصيدة، ولكنه شيء يقوم على التخيل، تخيل الفنان والمتذوق سواء بسواء. الصورة المحسوسة ليست سوى وسيلة نقل، والأثر الفني الأصيل لا يحصله المتذوق باستعمال حواسه فقط، وهي أدنى وأحط ضروب التلقي، وإنما يدركه باستخدام مخيلته".
في كل هذا استند المؤلف إلى أطروحات فلسفية مصدرها المفكر الإنكليزي ر.ج كولنجوود (1889 - 1943) وأستاذه الفيلسوف الإيطالي بنيديتو كروتشه (1866 - 1956). مرة بتضمينها في سياق عباراته ومرة بترجمتها ونقلها حرفياً.
وجاءت هاتان الفكرتان استكمالاً لرؤية هذين إلى الفن بوصفه تعبيراً، وقولهما إنّ جميع ضروب التعبير ذات صلة بالحركات البدنية، مما جعله يصل، وهذه هي الفكرة الثالثة اللافتة للنظر في هذا الكتاب، إلى أن الرقص هو جماع الفنون، أي أنه هو اللغة الأم لكل لغات الفنون. وتستخدم "هذه اللغة الجسد كله في الدلالة على التعبير ولا تقتصر على جزء بعينه من هذا الجسم"، كما يقول عبد الحميد يونس.
يقتطف هنا من كتاب كولنجوود المسمى "مبادئ الفن" (1938)، متحدثاً عن الرقص الهندي الذي يقوم على الحركة والإيقاع ويصدر عن فطرة صوفية، كما ينزع إلى تجسيد الأفكار الفلسفية، ومنها قوله: "وفي هذا أصبحت الحركات البدنية قادرة على نقل المعاني المجردة.
ويُروى أن بوذا استخدم في لحظة الوصول إلى ذروة نقاش فلسفي لغة الحركة، فأمسك بوردة بين أصابعه وتأمل فيها، فابتسم أحد مريديه، وعندئذ قال بوذا له: "أنت فهمت ما أعني"".
غير الجمال اللغوي
هذه الملامح الأولية لم تتخذ طريقها إلى الثقافة العربية، وإن اتخذت فكرة "وحدة اللغة الفنية" ذاتها طريقها إلى هذه الثقافة بشكل مختلف ومختزل، أكثره وضوحاً فكرة إلغاء التمييز بين الأنواع الأدبية القائمة على اللغة المكتوبة والمنطوقة، لا على أي وسيلة فنية أخرى مثل الموسيقى والألوان والخطوط والمعمار. ولعل مما ساهم في إبقاء فكرة مثل هذه سجينة كتاب "الأسس الفنية" هو عنوان الكتاب الذي يوهم بأن موضوعه هو أسس خاصة بالنقد الأدبي، بينما كان موضوعه مبادئ الفن أو علم الجمال لا شرح مبادئ نقدية أدبية.
قبل أن يصدر هذا الكتاب، جمع أحد تلاميذ هذا الأستاذ محاضرات له ونشرها تحت عنوان "مقدمات في البلاغة الحديثة" (مجلة "الرائد" الكويتية، 1952) تحدث فيها عن الخيال في الفن واللغة الفنية، وهي ذات الموضوعات التي يأخذها إلى كتابه، "الأسس الفنية"، ويتوسع فيها، ونجده يعود إلى تكرار ما نقله حول اللغة الفنية من فلاسفة الغرب في مقالة له نشرها في مجلة "عالم الفكر" الكويتية (عدد1، مجلد 2، 1972)، مما يعني أنه ظل مشغولاً لسنوات بالفن ومبادئ علم الجمال التي تعرّف عليها عن طريق كولنجوود و كروتشه، ولدى آخرين من أمثال أ.ف. جاريت الذي ترجم كتابه "فلسفة الجمال" بالتعاون مع رمزي يسي وعثمان نوية، في وقت لم يكن يعرف فيه الناقد العربي نهجاً جمالياً غير نهج الجمال اللغوي، فغابت عنه جماليات فنون أخرى، بالإضافة إلى غياب النظرة إلى الجوهر؛ أي إلى الأسس الجامعة والموحدة لمختلف ظواهر التعبير الفني.
فهل نجح كتاب "الأسس الفنية للنقد الأدبي" وفتح الباب المغلق دون "النقد الجمالي" بمعناه الشامل؟ قبل ذلك كانت هناك التفاتة إلى هذا الاتجاه على يد الباحثة روز غريّب (1909 - 2006)، إلا أن هذه الالتفاتة لم تترسخ في مجرى التيار الثقافي العام حتى مع ظهور كتاب "الأسس الفنية"، لأن صاحبه بدا متردداً وعلى غير يقين كما يبدو بين اتجاه لا يرى الجمال إلا في المصنفات الأدبية، وبين اتجاه تبناه في ضوء أطروحات كولنجوود وكروتشه وجاريت التي تنطلق أساساً من رؤية وحدة التعبير الفني مهما اختلفت الوسائل بين كلمة ولون وصوت موسيقى ومنحوتة.
إذا تجاوزنا المقدمة التي تتناول المدارس النقدية، السلفية والتجديدية والتوفيقية، فإن الكتاب قد تناول عدداً من الموضوعات هي ذاتها موضوعات مبادئ الفن الجمالي لدى كولنجوود وأستاذه، وهي، الفن والحرفة، أي الصنعة حسب ترجمته، والفن والتمثيل، والفن والسحر، والفن والترفيه، ثم الإبداع الفني، والفنان، والتجربة، واللغة الفنية، والذوق. ولا تخرج هذه عن مخطط كتاب "مبادئ الفن" إلا في التصرف في ترجمة أو فهم بعض المصطلحات، مثل توهم أن "تمثيل الأشياء والمحاكاة الأفلاطونية" منحصرة في معنى "التمثيل" المسرحي، وأن المحاكاة مشتقة من فعل الحكي والحكاية.
معنى الفن للفن
ونجد في تضاعيف الكتاب محاولة لإيجاد تواز أو تناظر بين مضامين مبادئ الفن الجمالية الغربية، وبين ما يقابلها في الثقافة الأدبية العربية، وخاصة في الحديث عن "المنفعة والمتعة" في الفن، تلك التي يترجمها إلى "الصالح العام" و "النزعة الفردية". والصالح العام يتمثل في نظره في كون الشعر، ومثاله الشعر الجاهلي، تعبيرا عن الوجدان الجمعي، ويرى في هذا الاتجاه نزوعاً إلى التوحد القومي، ويقرّر ببساطة أن "الفن الذي لم يكن يستهدف الصالح الجماعي العام لم يُعرف إلا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر". ويرى يونس أن "مؤرّخي الفن ونقاده يربطون بين هذه الظاهرة التي لا تحفل بالعبقرية الفردية احتفالها بالعبقرية القومية وبين الطور الأول من أطوار الفن، ذاك الذي امتزج فيه بالشعائر والطقوس البدائية المتدرجة في السحر وما إليه من جهود تتغيّا الصالح العام".
ومضى إلى القول: "وجد هؤلاء أن كثيراً من الشعائر والطقوس لا يزال حيّاً يعمل عمله في المجتمع". ومن هنا ينتقل إلى مبحث السحر، كما فعل كولنجوود، باعتباره مصدر الفنون بالكشف عن دلالات أخرى له من حيث الباعث والمظهر والوظيفة، يجدها لدى علماء الإناسة (الأنثروبولوجيا) الذين يرون في السحر "استخداماً من قبل البدائيين للمعارف للسيطرة على الطبيعة واستغلالها"، من دون النظر إليه من حيث الصحة والزيف، مثلما يفعل المتحضّرون بجهودهم العلمية. ويخلص هؤلاء إلى أن الساحر والعالم من جنس واحد. السحر (أصل الفنون) إذاً، لا يعدو كونه ضرباً من الخطأ العقلي، أو علماً طبيعياً خطأ.
ويجد دلالات أخرى لدى علماء النفس في رؤيتهم أن عقل البدائي مشابه أو مختلف عن عقولنا، ولكنه مختل أو مضلل، وأوجدوا صلة بين السحر والأمراض العصبية. وهناك اتجاه مدرسة الفن التي يرى أصحابها أن الشبه بين الفن والسحر وثيق وقوي. الأفعال السحرية تتضمن جهوداً فنية المظهر، كالرقص والغناء والرسم والنحت والإنشاد.
ومن السحر ينتقل الباحث إلى المحاكاة والتمثيل في الفن، فالحرفة والصناعة. وهنا يرى وجود فاصل بين الجهد الصناعي والجهد الفني فيلمس قضية مهمة طال الجدل حولها. يقول: "كل صناعة تعتمد على صناعة أخرى، فثانية فثالثة، أما الفن الجميل بعامة، والشعر بخاصة، فلا ينبغي أن يفتقر إلى غيره أو يعتمد عليه"، ويشير هذا التمييز بين الصناعة والفن إلى أحد المعاني المهمة في تعبير "الفن للفن" الذي فُهم خطأً على أنه يعني أن لا وظيفة للفن سوى الفن ذاته، بينما دلالة التعبير في أصله الغربي تنصرف "إلى مادة الفن اللازمة له وليس إلى أغراضه"، فلا يجب أن يعتمد على مادة غير مادته أو يفتقر إليها، سواء كانت الكلمة في الأدب أو الصوت في الموسيقى أو الحجر أو الخشب أو أي مادة صالحة للنحت... إلخ.
وبالطبع يعتبر الباحث أن من الشوائب التي تلم بالفن الاعتقاد أن التمثيل، أو المحاكاة، يجب أن يكون تطابقاً بين الطبيعة والعمل الفنّي، ومن الشوائب أيضاً الخلط بين الفن ومظاهر التسلية والترفيه، واستخدامه وسيلة للارتزاق. ويضيف إلى ذلك تلك النظرة العجيبة التي ترد الظاهرة الإبداعية إلى قوى فوق طبيعية، و"ليس ظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية التي تدخل في نطاق البحث العلمي".
وفي ضوء هذا يطلب من الفنانين والنقاد "أن يعملوا على تخليص الآثار الفنية من الأحكام الغيبية، وأن يُنزلوا الفنانين من أبراجهم العاجية"، وذلك بالطبع لكي تسلكهم هذه النظرة "مع زمرة الأحياء العقلاء الذين لا يكسبهم تفننهم صفة غير إنسانية، ولا تمنحهم امتيازاً على غيرهم من الناس".