صدر قديماً: "تاريخ اللغات السامية" لـ جودة الطحلاوي

07 يوليو 2018
كتابة بالحرف النبطي من آثار "مدائن صالح"
+ الخط -

لا يَعرف الكثيرون أن صفة "الساميّة" التي ترد في تعابير مثل "اللغات الساميّة" و"الشعوب الساميّة" و"العقلية الساميّة" و"العرق السامي" ..إلخ، هي من مخترعات الثقافة الغربية، وبتأثيرها انتشرت وعمّت وطمت في مختلف اللغات، بما في ذلك العربية، وأن الجذع الذي نمت عليه هو حكاية توراتية في سفر التكوين، الإصحاح العاشر، جاء فيها أن كل سكان الأرض اجتاحهم طوفان أهلكهم جميعاً (على اعتبار أن الكرة الأرضية كلها هي المقصودة بكلمة الأرض) ولم ينج سوى نوح الذي رزق بعد ذلك بثلاثة أبناء هم، سام وحام ويافث، ومن هؤلاء انحدرت الأجناس البشرية الثلاثة ولغاتها، السامية والحامية والآرية. وسترحل صفة السامية التي أصبحت مصطلحاً دالا على لغة، لتصبح دالة على عرق أو سلالة أو فكر أو عقلية شعب من الشعوب، بالتزامن مع ظهور النظريات العنصرية في القارة الأوروبية.

قبل ذلك، ومع بداية العناية بالدراسات اللغوية، ميّزَ الفيلسوف والموسوعي الألماني غوتفريد فلهلم لايبنتس (1646 - 1716) مجموعة لغاتٍ قريب بعضها من بعض تضمنت البونيقية، أي القرطاجية، والكلدانية والسريانية والإثيوبية والعبرية، وأعطاها تسمية "العربية" لأن الأخيرة هي الأوسع انتشاراً والمتكلمين بها أكثر عدداً، إلا أن هذه التسمية لم تلق قبولا على نطاق واسع في وقت كانت فيه القارة الأوروبية تندفع لاستعمار ما تصله جيوشها من شعوب وأراض في بقية قارات العالم، وخاصة قارة آسيا، وجنوبها الغربي تحديداً.

في عام 1781 فقط أعطيت مجموعة هذه اللغات التسمية المستمدة من الأسطورة لا من التاريخ التي ما زالت شائعة حتى اليوم، على يد المؤرخ الألماني أوغست لودفيغ شلوتسر (1735 - 1809). جاء في مقالة له نشرت ضمن مؤلف بالألمانية موضوعه الأدب التوراتي والشرقي ما يلي: "سادت، كما هو معروف، بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الفرات، وبين بلاد ما بين النهرين والجزيرة العربية، لغة واحدة. وكان العرب والسريان والبابليون والعبريون شعباً واحداً. وحتى الفينيقيون الذين هم من الجنس الحامي تحدثوا بهذه اللغة التي يمكن أن أسميها لغة ساميّة".

هذه معلومات لا بد منها بين يدي موضوعنا عن كتاب صدر قديماً، وتحديداً في عام 1932 تحت عنوان "تاريخ اللغات السامية" للطالب في دار العلوم المصرية آنذاك جودة محمود الطحلاوي، وكان قد سبقه صدور كتاب بالعربية أيضاً يحمل العنوان ذاته في عام 1929 من تأليف "إسرائيل بن زئيف" الذي اتخذ لقب أبو ذؤيب نقلا عن معنى اسمه الأصلي "ولفنسون" أي ابن الذئب (1899 - 1980)، وهو ليتواني أشكنازي من الأتراك الخزر المتهودين جاءت أسرته إلى فلسطين ضمن موجات الاستعمار الأولى في أوائل القرن التاسع عشر. درس في مصر في عشرينيات القرن العشرين، وحصل على شهادة دكتوراه من الجامعة المصرية، وثانية من ألمانيا، ثم استقر في فلسطين بعد احتلالها وشارك في مشروعات تهويد أرض فلسطين وسكانها.

هذان الكتابان، وكلاهما صدر في القاهرة، ولدا في وقت كانت فيه الأبحاث اللغوية، وخاصة أبحاث لغات الوطن العربي القديمة، موضع عناية علماء الغرب، كما يلاحظ "أبو ذؤيب": "ولكنها لا تزال مجهولة لدى الأمم الشرقية". وكانت "مهضومة الحق في تآليفنا العربية" كما يلاحظ "الطحلاوي". يلمّح الأول ولو بشكل خجول إلى الأغراض الدينية والاستعمارية التي قد تكون وراء جد الأمم الغربية "في معرفة لغات وتاريخ الأمم السامية القديمة، والوقوف على آثارها في تكوين المدنيات العامة" ويقول بناءً على هذا "كان من الواجب أن تكون لأبناء الأمم الشرقية جولات في كشف ما ترك آباؤهم من عجائب الآثار، وما كان لهم من الفضل في تكوين حضارة العالم القديم"، ويضيف عن عنايته باللغة العربية ما نصه: "... عنيت بالبحث في نشأة اللغة العربية ووصلتُ إلى نتائج هي ثمرة جهودي الشخصية إذ كانت بحوث المستشرقين في نشأة اللغة العربية ناقصة".

إلا أن الطحلاوي يبدو أكثر وعياً بما يسعى إليه، وإن كان وعيه أسير مرحلة لم تكن قد تسلطت فيها الأضواء على نصوص الحضارات العربية القديمة، ولا تقدمت الأبحاث في جوانبها الأدبية والفنية والتاريخية، ولا تحررت أذهان الباحثين العرب من سطوة الخطابات الغربية. يقول في مقدمة كتابه: "ساءني كما ساء كلّ غيور على لغته وقوميته أن أرى المستشرقين يقودوننا حتى في أمسِّ الأشياء بنا رحماً، كالتاريخ الإسلامي واللغات الساميّة والآداب العربية، حتى أصبح منتهى علم عالمنا أن يقف على آثار أبحاثهم ومناحي أفكارهم مما تندى له جباهنا خجلا أن كانوا هم السابقين إليها".

في ذلك الزمن، كانت التبعية المشار إليها في هذه السطور أعمق من ذلك بكثير، وخاصة في ما رافق حكاية مصطلح "السامية" بتحوله من الألسنية إلى أبحاث الأعراق والعقليات، وتبعات هذا الخطأ البحثي وآثاره العميقة في التمييز العنصري بين عقلية "ساميّة" و "آرية"، أو شرقية وغربية، في الاجتماع والسياسة والأخلاق والأدب. في ذلك الزمن كان عدد من المستشرقين من دارسي اللغات القديمة، لا يعزلون لغة عربية عن أخواتها العربيات فقط كما حدث مع اللغة المصرية القديمة، بل يتحدثون أحاديث عجيبة عن شعوب الشرق، وخاصة الشعب العربي الذي كان في عين العاصفة.

من هؤلاء، أو أكثرهم ذيوعاً ونفوذاً في ذلك الزمن، الفرنسي إرنست رينان (1823- 1892) الذي كان قد ألقى بذوراً "نمت" و"ازدهرت" حتى بعد وفاته. فهو ببحثه التاريخي والنظري حول اللغات "السامية"، وحول اللغة العبرية خصوصاً (1847)، وبمؤلفه الأهم بين أعماله "تاريخ اللغات السامية" (1855)، زرع أكثر الأفكار عنصرية انطلاقاً من نسب ألسني أسطوري. أي أنه عمل على نقل سلسلة من التصنيفات اللسانية المخترعة إلى صعيد عرقي وثقافي، وكانت النتيجة أن من أطلق عليهم تسمية الساميين، بمن فيهم العرب بالطبع، يكادون يتحدّدون حصراً "بخصائص سالبة" ما داموا لا يمتلكون معتقدات أسطورية ولا علماً ولا فلسفة ولا فضولا ولا تمييزاً ولا فناً تشكيلياً ولا ملحمة ولا حياة سياسية ولا تنظيماً ولا تعددا. ويتوج كل هذا بهذا الحكم: "يمثل العرقُ السامي فعلا، بالمقارنة مع العرق الهندي/الأوروبي، تركيبة من الطبيعة الإنسانية متدنية". ولا يكتفي بذلك، بل يتعامى عن الأدلة التي كشفت عنها نقوش ودراسات حضارات المنطقة العربية من كنعانية وآشورية وبابلية.. إلخ.

مثل هذا النحو من التفكير العنصري وجد رواجاً في الثقافة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وما زال يسري في كتابات عربية أكاديمية وغير أكاديمية، ويمكن أن نجده منقولا نقلا حرفياً في كتاب "الخيال الشعري عند العرب" لأبي القاسم الشابي (1909- 1934)، على سبيل المثال، ونجده مسلماً بمقدماته ونتائجه في النقاشات الفكرية على صفحات الصحف والمجلات.

حول هذا الموضوع لا نجد ذكراً لدى "أبو ذؤيب" باستثناء الإشارة الخجولة التي ذكرناها آنفاً، ولكننا نجد لدى "الطحلاوي" نقداً لرينان وأمثاله، وإشارة إليه بالاسم. فبعد أن يشير إلى المنجزات الحضارية التي حققها الساميون بناة المدنيات القديمة، من بابليين وكنعانيين وغيرهم، على صعيد العلوم والشرائع والقوانين والعقائد ووضع الأبجدية.. إلخ، يتساءل: "إذا كان هذا صحيحاً فما بالنا نرى المستشرقين الآن ينعتون الساميين بعقم الإنتاج وسذاجة الحياة الاجتماعية وعدم علمهم بأساليب السياسات المختلفة، وغير ذلك مما دبجه يراع الفرنسي رينان". ويذكر كتابه تاريخ اللغات السامية، وقوله فيه عن الساميين إنهم "خلو من الروحانية الرفيعة التي عرفها الهنود والألمان، ومجردون من الذوق الفني والإحساس بالجمال الذي نما وكمل عند اليونان، وليس لهم هذه العواطف الحياتية الرقيقة التي اتسم بها الفرنسيون أهل الفصاحة واللسن".

المهم هنا ليس الانتباه إلى تهافت هذا النحو من التفكير المعتل، بل محاولة تعليل أسبابه. وفي هذا يجد "الطحلاوي" ثلاثة أسباب تقف وراء ما يمكن أن نسميه تحامل المستشرقين والغربيين بعامة هي، أولا: شعورهم بأنهم رسل الإنسانية والحضارة في الأرض، وأن واجبهم أن يُشعروا المغلوبين على أمرهم أنهم لا يصلحون لحكم أنفسهم استقلالياً. وثانياً: أنهم رأوا أنفسهم أرباب المخترعات النافعة ورسل التحول والانتقال فرمونا بالجمود والمحافظة. وثالثاً: أنهم اتقوا وخافوا أن لا نكون، ونحن أبناء أولئك العظماء الذي شادوا صروح المدنيات، نرضى بالذل تحت أيديهم فنتطلع إلى الحرية والاستقلال، فأرادوا أن يشوهوا ماضينا، ويقطعوا الصلة بيننا وبين تاريخنا المجيد ليسهل علينا الهوان.

ويبدو أن هذا التعليل ما زال صالحا حتى الآن، ليس في مجال دراسة اللغات فقط، بل وفي مجالات سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية، ويمكن أن يلقي ضوءاً من الماضي على رؤية إدوارد سعيد (1935- 2003) للاستشراق بوصفه خطاباً يصنع معرفة بالشرق ملائمة للسيطرة عليه وحكمه والتحكم به.

المساهمون