الطيب تيزيني.. لا يزال الشكر راهناً

24 مايو 2019
(الطيب تيزيني في بورتريه لـ أنس عوض، العربي الجديد)
+ الخط -

في مكتبتي الطبعة الأولى من الكتاب الشهير الذي صدر في بداية السبعينيات من القرن العشرين للمفكّر السوري الذي رحل منذ أسبوع، الطيب تيزيني، وعنوانه "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط". اشتريت الكتاب بعد صدوره بفترة وجيزة، وقرأتُه، وكتبت في صفحة العنوان الداخلية "شكراً الطيب تيزيني".

لا يزال الشكر راهناً بعد مرور ثمانية وخمسين عاماً على القراءة الأولى. إنه من الكتب التي لا ينساها المرء طول عمره بعد قراءتها، وأنا أتحدّث عن كتاب في الفلسفة وفي تاريخ الأفكار، أي من تلك الكتابات التي توصف بالصرامة والعبوس ولا تراعي أن تكون مشوّقة، وعن كتاب تزيد صفحاته المزدحمة بالأسطر والكلمات عن أربعمائة صفحة. ولكن الشكر كان موجَّهاً لجانب آخر أيضاً، أذكر أننا انشغلنا به إبان صدور الكتاب.

واللافت أن قرّاء الكتاب، والمشاركين في حلقات النقاش التي كانت تدور حوله في تلك السنة، كانوا جميعاً من الشباب. وإذاً، فنحن أمام حدث جديد كل الجدّة، إذ كان يندر أن ينشغل شباب في سن العشرين أو بعدها بقليل بكتاب عميق في تلك الموضوعات. وأعتقد اليوم أن الكتاب كان جرعة حيوية مضادّة لفكر الهزيمة، وأن القراءة نفسها كانت ردّاً ما منا على الهزيمة، على الرغم من أنه لا يأتي على ذكرها.

لكن الطيب تيزيني قدّم في ثناياه أفكاراً حازمة بخصوص طبيعة العلاقات الثقافية، والإنتاج الثقافي للأمم والشعوب، وتغييب الفكر الثوري في تراثنا، ساعدتنا على تفكيك خطاب التجريح المازوشي الذي كان الكثير من الكتّاب قد بدأوا في تبنّيه ونشره عن العرب وتاريخ العرب مثل انعدام الأصالة والعمق، وعدم وجود أفكار تنتمي للواقع، وتقليد الثقافات الأخرى، وعجزهم عن التفلسف، مثلما يحدث في زمن الهزائم (يحدث مثل هذا الآن أيضاً).

يكتب الطيب: "إن الثقافة العربية لم تكن هجينة، حتى لو كانت قد تكوّنت تحت تأثير الثقافات الأجنبية، فالتأثُّر لا يُلغي الهوية إذا ما استطاع ممثّلو الثقافة استيعاب هذه المسألة بعمق"، ثم أعلن: "إن واصل بن عطاء والنظام والكندي والفارابي وابن سينا والحلاج وأبا العلاء المعرّي وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون هم جزء جوهري من تراثنا الثقافي، وهؤلاء لم يكونوا أبداً نسخة عن الثقافات الأخرى".

وبهذا يكون الكتاب، إضافة إلى قيمته الجوهرية كاكتشافات معرفية، واحدة من المرافعات الجليلة التي دافعت عن ضمير الأمة وعن وعيها وفكرها في مواجهة محاولات زعزعة الكيان كلّه، وهذا أمر هام للغاية قد لا يظهر أثره واضحاً اليوم، إلّا إذا تذكّرنا أنه صدر في عام 1971، أي بعد هزيمة حزيران ببضعة أعوام، وفكّرنا بتاريخ الكتابة، وهو تاريخ سابق على النشر بما لا يقل عن السنتين، وأن الأستاذ ظل مخلصاً الإخلاص كله لمشروعه ومنهجه وموقفه من قضايا الأمة، وعنده أن القضايا الكبرى لا تنفصل البتة عن اليومي أيضاً، وعندئذ سوف ندرك أن هذا الكتاب دخل التاريخ كعلامة ومنارة ومحرّك أفكار.

دلالات
المساهمون