منذ أن وُجدت الكتب، من الحضارات القديمة ووصولاً إلى أشكالها الحديثة، من مطبعة غوتنبرغ إلى الحوامل الإلكترونية، حضر الطبّ على مختلف أنواع الصفحات. ولما كانت الكتابة وسيلة لنقل المعرفة وتخزينها، فإن معارف هذا المجال العلمي كانت من أولى ما ينبغي نقله عبر الكتب، ولم تخلُ حضارةٌ كتابية من ترك نصوص في الطب لأجيال لاحقة ساهمت بالتأكيد في تطوّر كفاءات إنقاذ الحياة من عصر إلى آخر.
تجدر الإشارة إلى أن دخول الكتب منظومة التصنيع، بدايةً من القرن التاسع عشر، تَرافق مع انفصال تدريجي بين حقول اجتماعية ومعرفية كثيرة، ومنها الحقلان الثقافي والطبّي (الثاني ضمن انفصال أشمل للفضاء العلمي عن بقية القطاعات). وبما أن قطاع النشر ابنٌ شرعي للحقل الثقافي، فقد تهمّش بالتدريج موقع الطب في عالم الكتاب، وإن بقي للطب حضورُه على مستوى المطبوع. وحين تدخل اليوم إلى مكتبة كبيرة، ستجد لا محالة رفّاً مخصّصاً للكتب الطبّية، غير أنه من النادر أن تكون المساحة المخصّصة لها كبيرة - مقارنة بالرواية أو كتب التاريخ والفلسفة مثلاً - وإن وجدتَها، فلا يخفى أنّ هذه الكتب الطبية موجّهةٌ في الغالب إلى المتخصّصين، من طلبةٍ وأكاديميّين وممارسين.
يبدو أنّ من الأعراض الجانبية لفيروس كورونا أنه أعاد كتب الطب إلى الضوء، لكن الأمر لا يتعلّق بكتب تعتمد المعجم الطبّي ببنيته العلمية التراكمية أو تتحدّث في دقائق علوم التشريح والأنسجة والفيزيولوجيا والكيمياء الحيوية، فذلك أقرب إلى طلاسم بالنسبة إلى القارئ العابر، بل يأتي هذ الحضور من خلال ظهور فئة من المؤلَّفات تقع بين الفكر والطب؛ حيث يُستدعى الأخير إلى فضاء المفردات العامّة لمناقشة قضاياه، بأدوات طيف من العلوم الإنسانية، كالفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية والتاريخ، وهو ما يتجلّى بوضوح في موجة من الإصدارات الفرنسية خلال الأسابيع الأخيرة.
أبرز هذه الكتب بعنوان "أوبئة: أخطار حقيقية وإنذارات كاذبة" (منشورات ميشيل لافون، نهاية مارس/ آذار الماضي)، ويعود سبب جماهيرية الكتاب إلى الشهرة التي حققّها مؤلفه الطبيب ديدييه راوولت مع توصّله إلى طريقة علاجية بسيطة لمصابي "كوفيد-19" رفضت المؤسسات الرسمية الاعتراف بها، والكتاب ليس بعيداً عن هذا السجال، حيث يعود المؤلف إلى مجموعة من الأوبئة (الجمرة الخبيثة، أنفلونزا الطيور، إيبولا، سارس...)، ليضع التقارير الطبية الصادرة عن المخابر في مرحلة أولى ويقارنها مع تقارير تمرّ من طبقة مؤسّسات أُخرى مثل وزارات الصحّة وشركات إنتاج الأدوية، مؤكّداً على وجود عمليات تضخيم مع هذا الانتقال هي أشبه بطفرات للفيروس، لكنها طفرات ذهنية تقع في عقول الناس أكثر من كونها طفرات تكوينية في بنية الفيروس.
من تلك الكتب أيضاً كتاب "المرضى صفر: التاريخ المعاكس للطب" (لا ديكوفارت)، للكاتب وعالم الأوبئة لوك بيرينو، وهو عمل ينطلق فيه من فكرة أن تاريخ الطب المتداول إنما هو تاريخ انتصارات الطب، في حين أن لحظات الانتصار تلك تُخفي وراءها التجارب الخاطئة التي لم تؤدّ إلى أي نتيجة، أو النظريات الضعيفة التي فرضتها قوة سياسية أو المعتقدات، وكان لكل هذه المسارات الخاطئة ضحايا ردمتهم الانتصارات الطبية اللاحقة.
مع هذه الكتب، تحضر أخرى أقلّ اشتغالاً تأليفياً لكنها تلقى إقبالاً، وتُنشر مباشرة ضمن سلاسل كتب الجيب (أي بأسعار زهيدة)، وهي أعمال في معظمها صياغات لحوارات مع أطباء، ورغم بساطتها وسهولة إنجازها، فهي تشير إلى هذا الاهتمام الطارئ بالطب. وفي هذه الأعمال كثيراً ما يجري تخطّي السؤال المباشر عن كورونا إلى أسئلة أوسع حول مستقبل الصحة العمومية أو سياسات مقاومة الأوبئة ونجاعتها.
في خانات "يصدر قريباً" ضمن مواقع دور النشر الفرنسية، سنجد أن عدداً منها قد أعطى أولوية لكتب في السياق نفسه؛ مثل "سوي"، التي تطلق قريباً النسخة الفرنسية من كتاب "أكثر من عدوى"، للكاتب وعالم الفيزياء الإيطالي باولو جوردانو، وهو عمل لم يمض على صدوره بالإيطالية إلا أسابيع قليلة. ومن المنتظر أن يترجم قريباً كتاب "فلسفة الطب" (مارس 2020)، للباحث الإسباني كريستيان سابوريدو، كما أعلنت منشورات "أوديل جاكوب" عن قرب صدور كتاب جماعي بعنوان "الصحة: حالة طوارئ".
وفي موقع الدار الأخيرة، يمكن أن نلاحظ أنها قد أعادت إلى واجهة التسويق كتباً بدا أنّ الطلب عليها قد انتهى، مثل "لقاحات"، لـ فيليب سانسونيتي، وهو عمل صدر في 2017، و"حياة وموت الأوبئة" الصادر في 2013، لـ باتريس دوبريه وجان بول غونزالي، و"أمام الخطر الوبائي" (2014)، لـ ديدييه أوسين، و"السيرة الذاتية للفيروس" لـ إيريك ناتاف، وقد صدرت طبعته الأولى في 2004.
هكذا نفهم أن اهتمام العلوم الإنسانية بالطب لا يأتي بمناسبة كورونا بشكل كلّي. فقط، نجح الفيروس في توجيه أجهزة الإضاءة إليه. وجدير بنا أن نذكر أن الأصل هو اشتباك مستمرّ بين هذا وذاك، أفلا يشترك الطب مع الفلسفة في أبوّة أرسطو، وكان كتاب "الشفاء" لابن سينا قد تحدّث في ما بعد الطبيعة أكثر مما تحدّث في الطب، وهو القائل: "الوهم نصف الداء، والطمأنينة نصف الدواء"، ولا تأتي الطمأنينة من وصفات طبّية بحال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انقطاع عربي
إذا كان فيروس كورونا قد رجّ بعض الثقافات فتسابق كتّابها وأطبّاؤها في التأليف حول الطب، فإن الحال ليس كذلك باللغة العربية، حيث يستمر التوقّف، رغم أنّ الضاد مثّلت لغة الطب بين القرنين الثامن والثالث عشر ميلادي. كثيرة هي الأسباب التي تعيق الكتابة عن الطب، وأبرزها غلبة الإنكليزية والفرنسية في دراسة وممارسة الطب، والقطيعة بين عالم النشر ومجالات الفكر من جهة واختصاصيّي الصحة من جهة أُخرى.