صراعات أجيال فسيفسائية

03 اغسطس 2016
تجهيز لشيهارو شيوتا/ اليابان
+ الخط -

من الصعب أن نجد مجالاً من مجالات التعبير والمعرفة البشرية يتجلّى فيه الصراع بين الأجيال مثل الشعر. يبدو الشعراء، في كل مكان في العالم، هم أسرع من يقفزون خارج شرنقة التتلمذ معلنين قطيعتهم مع من سبقهم. طبعاً، لا يقدر جميع هؤلاء الذاهبون في مغامرة القطيعة على مواصلة الرحلة حتى التحليق بعيداً، ما يخلق حالة من التشظي تجعل من العسير التأريخ للشعر مثل التأريخ للفلسفة أو للعلم مثلاً.

عربياً، بعد انقطاع قرون، كان مشهد صراعات الأجيال في النصف الأول من القرن العشرين واقعاً تحت الأضواء تماماً، حيث أنه يمكننا رصد ما جرى بين جيل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وجيل "جماعة الديوان" أو جيل "مجلة أبولو" من خلال كتابات هذا الطرف وردود الآخر عليه أو المتطوّعين للدفاع عنه.

بعد ذلك، وقعت نهاية الأربعينيات "معركة الشعر الحر" أيضاً تحت الأضواء النقدية والصحافية، وأفرزت بسرعة قامات شعرية ستملأ فراغات الذائقة الجديدة، وتصنع جمهوراً كان يتوسّع بفعل انتشار التعليم إثر خروج البلدان العربية من الاستعمار.

تشكّلُ ذائقةٍ شعريةٍ (جاهزة) لدى الجمهور العربي سيكون هو القماشة الكبيرة الذي ستدور تحتها صراعات الأجيال الشعرية اللاحقة، إذ إن ذلك التكريس، الذي خدمته توجّهات وسياسات ثقافية للأنظمة العربية، سيضع في الظل كل ذلك الزخم من النقد العفوي والرؤى التجريبية، التي انتشرت نزعتها لدى الشعراء الجدد.

دخول هؤلاء إلى المشهد اصطدم بإشباع جماهيري تهيمن عليه أسماء بعينها. كان المشهد الشعري قريباً من ساحة سياسية تحكمها مراكز قوى. هنا تهمّش البعيدون عن مدن بعينها، وتهمّش الباحثون عن أصواتهم الشخصية، وبالتأكيد تهمّش الملتحقون الجدد بكتابة الشعر.

وصول فكرة الحداثة كان أشبه بسقوط نيزك. لولا ذلك الارتطام الكبير من الصعب تخيّل ما سيجري لاحقاً، حيث تسارعت صراعات الأجيال، وبتنا أمام ظاهرة إسقاط تسمية جيل على كل دفعة من الشعراء.

هذا التسارع، وبالرغم من كونه ظاهرة صحية، إلا أنه كان هو الآخر عاملاً من عوامل ضياع الصوت، فتواتر البيانات والتنظير للتجاوز يبدو أنه زاد من تشبّث الذائقة الجماهيرية (نفس عوامل التكريس السياسوية لا تزال فاعلة وقتها). إنها حالة التهميش التي تخلقها الضوضاء.

من الثمانينيات إلى اليوم، يبدو المشهد الشعري العربي مثل صراعات أجيال متراكبة ومتزاحمة بل فسيفسائية في بعض الأحيان. ثمّة نزعة في العقدين الأخيرين إلى تجاوز هذا التصوّر برمّته والتخفّف من عبء التفكير في "التراث" القريب للشعر العربي، لكن ذلك لا يزال يتسرّب في صراعات متناثرة (أقل عمقاً من تلك التي شهدتها الساحة سابقاً) كثيراً ما تصل أصداؤها في انتقادات على خلفية تسليم جائزة أو ملاحظات حول ترتيبات تنظيم مهرجان.

حالة من الصراعات الصغيرة توازيها عمليات تكريس مختلفة، أحياناً لذائقة تراثية عتيقة، ومراتٍ ينظر الشعراء حولهم فلا يجدون إلا قلّة مصغية، وكل هذا المشهد الذي يتزاحمون فيه ليس سوى نقطة من شبكة عالمية للشعر.


المساهمون