في تنوير التنوير

31 ديسمبر 2016
("متذوق الفن الصغير" لـ أوغست سيغرت، 1863)
+ الخط -

لم تشغل قضية أخرى الخطاب الألماني المعاصر، بمختلف تعبيراته في السنوات الأخيرة، مثل قضية الإسلام، أو بالأحرى، وحتى نكون أكثر موضوعية، "خطر الإسلام". لقد نجح قطاع واسع من الإعلام الألماني، وبشكل يذكرنا بالإعلام الفرنسي، في تخويف المجتمع الألماني من الإسلام، واعتباره خطراً على "المجتمع الحر".

وفي هذا السياق، لن يسمح هذا الخطاب لأصوات أخرى بالظهور، غير تلك التي تؤكّد أطروحته، وأغلبها عربي أو قادم من العالم الإسلامي، ولا يعرف إلا الشيء القليل عن الإسلام وثقافته، كما لا يملك نظرة نقدية، تسمح له بتفكيك علاقات القوى وأشكال العنف الاقتصادي والسياسي والثقافي، التي تقف خلف ظهور الإرهاب واستمراره.

إن نقد الدين فعالية حضارية، وجزء لا يتجزّأ من الحضارة الإسلامية نفسها، وهو أمر لا يمكن لأي دين أن يستمرّ بدونه، وليس كما يعتقد الخطاب المحافظ. ولكن ما يمارسه "الخطاب الغربي المعاصر"، لا يدخل في باب النقد بل في باب الأيديولوجيا. لهذا يحق لكل متتبع نقدي أن يتساءل: هل يتم استعمال الإسلام فقط، للتغطية عن المسؤول الحقيقي على ما يحدث في العالم من ظلم وعنف؟ في "الإيمان والمعرفة"، كتب جاك دريدا بأن "الإسلام ليس هو الإسلاموية"، ويدعونا إلى "عدم نسيان ذلك".

لكن الخطاب الغربي حول الإسلام اليوم، يتأسّس كله على هذا النسيان، كما يتأسّس "التشييء" على نسيان الاعتراف بالآخرين وحقوقهم، بلغة أدورنو. ويمكن تلخيص الاتهامات الموجهة إلى الإسلام في مفهومين أساسيين: التنوير والإصلاح. وبلغة أخرى، إن الإسلام لم يعش تنويراً ولا إصلاحاً دينياً. لكن على هامش هذا الخطاب الذي يتخذ أحياناً أشكالاً باثولوجية، وقد تصل به صرعاته إلى الحديث عن "إسلام فاشي" و"آيات دموية" وما إلى ذلك، تنبعث بعض الأصوات القليلة من داخل الجامعة الألمانية، لتنتقد الخطاب السائد، وتفضح الأدلجة التي تتعرّض لها مفاهيم مثل التنوير والإصلاح.

وفي هذا السياق، نشرت صحيفة "زود دويتشه" الألمانية في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، مقالاً مُهماً لأستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة زوريخ، أولريش رودولف، يحمل عنوان "احذروا الأسطورة". مقال ينتقد تلك الهالة الأسطورية التي تحيط بالتنوير في الخطاب الغربي المعاصر.

يتعرّض رودولف في مقاله خصوصاً إلى العلاقة بين خطاب التنوير أو بالأحرى أيديولوجية التنوير في الغرب اليوم والإسلام. تقوم تلك الأيديولوجية في رأيه على فرضيّتين؛ الأولى تعيد مشاكل العالم الإسلامي اليوم إلى واقع أنه لم يعش تنويراً. والفرضية الثانية، ترى أن لا علاج لمشاكل العالم الإسلامي اليوم إلا بالتنوير.

يرى رودولف أن علينا أوّلاً الحذر من تحويل التنوير نفسه إلى أسطورة، وبلغة أخرى علينا أن لا نتعامل معه بشكل مطلق ونعتقد أنه قادر على حل كل المشاكل المطروحة أو أنه ترياق سحري يسمح بتحقيق التقدّم الثقافي والاجتماعي المنشود. وبناء عليه، يرفض رودلف ربط التنوير بالقرن الثامن عشر الأوروبي، معتبراً أن التنوير لا يرتبط داخل الثقافة الأوروبية نفسها بتلك الحقبة فقط، كما أنه ممارسة عرفتها ثقافات مختلفة، ومنها الإسلامية، وهنا يذكر أسماء الفارابي وابن سينا وابن رشد، ومنافحتهم عن استقلالية العقل، أو الرازي ودفاعه عن دين يتوافق مع العقل، كما أن الحضارة الإسلامية لم تغلق أبوابها أمام الثقافات الأخرى، بل تعمد في لغة الكندي إلى "تبنّي الحق بغض النظر عن أصله"، واعتبار "العلم الأجنبي" إرثاً كونياً.

لم يقف الإسلام إذن حجر عثرة يوماً أمام التعلم والانفتاح على الثقافات الأخرى، بل قد نقول بلغة ابن رشد إن هذا الانفتاح، "واجبٌ شرعاً". ومن شأن هذه العودة إلى التاريخ الثقافي للإسلام، أن يرفع اللبس عن قضية محورية اليوم، تتعلق باستفادة المسلمين من الحداثة الغربية وغير الغربية، وسيكتشف الملاحظ المسؤول أن الرفض المنبعث من داخل العالم الإسلامي للقيم الكونية اليوم، يرتبط بسياق تاريخي معيّن، ولا علاقة له بالقيم الإسلامية المؤسسة ولا بالتراث الإسلامي المتعدّد.

إنه ادعاء متهافت، القول إن الإسلام عاجز عن التنوير يؤكد أولريش رودولف، وسيرى أن هذا الادعاء يعود أيضاً إلى موقف بعض وجوه الفلسفة الغربية من الإسلام والثقافات الأخرى، أو من فعل التفكير الفلسفي نفسه، وعلى رأسهم هيغل. فبالنسبة له "لا توجد سوى فلسفة واحدة، وهي تلك التي يتوافق تاريخها مع تعبير العقل عن نفسه، وتؤدي في النهاية إلى نظامه الفلسفي الخاص به". أما التقاليد والفلسفات الأخرى، فلا تملك برأيه سوى "صلاحية مؤقتة". "ومثل هذه الأحكام ـ يقول أولريش رودولف ـ رافقت الأبحاث الأوروبية حتى القرن العشرين. ولم تتعلق فقط بالبحث المتعلق بتاريخ الفلسفة، ولكنها تعبّر عن موقف مبدئي، تطوّر بتطوّر حركة التنوير. فكلما قطع التنويريون شوطاً أكبر في التعبير عن مفاهيمهم، كلما عبّروا عن أشكال التفكير في الثقافات الأخرى.

وحتى نستشهد بما جاء في "جدل التنوير" (لـ هوركهايمر وأدورنو): فإن التنويري الأوروبي المكتمل/ سيعبّر عن نفسه بشكل بطولي في حكمه التبخيسي، الذي سيصدره على كل أولئك الذين لا يتوافق تفكيركهم مع شكل تفكيره"، وهو ما يؤكد أن الموقف التنويري نفسه، يحتاج إلى تنوير.

دلالات
المساهمون