شكري المبخوت و"ثلاثية" السيرة الذاتية: أساطير وأقنعة من ورق

20 نوفمبر 2017
(أشغال تمثال بورقيبة في تونس، 2016، تصوير: فتحي بلعيد)
+ الخط -
بصدور كتاب "الزعيم وظلاله.. السيرة الذاتية في تونس" (المنشورات الجامعية بمنوبة، 2017)، يراكم شكري المبخوت (1962) اشتغالاته ضمن نفس مجال البحث (السيرة الذاتية) بعد أن صدر له سابقاً كتابا "سيرة الغائب.. سيرة الآتي" (دراسة في كتاب "الأيام" لـ طه حسين، "دار الجنوب"، 1993 ثم في طبعات أخرى) و"أحفاد سارق النار.. في السيرة الذاتية الفكرية" ("مسكلياني"، نهاية 2016).

قد تَظهر الأعمال الثلاثة مثل تنويع على نغم واحد، غير أن كل عمل منها يخرج بنتائج خاصة، ويثير إشكاليات تختلف مع الوضعيات التي يُنشئها المؤلف من خلال خيارات المدوّنة التي يشتغل عليها، وهو ما يؤكد خصوبة نمط السيرة الذاتية وقدرتها على إضاءة مساحات تبدو ظاهراً بعيدة عن متناولها.

منذ إصداره الأول، يضعنا المبخوت حيال قضايا هذا النمط، ليس فقط النظرية منها، تلك التي يتناولها واضعاً القارئ أمام "تراث" البحث (الفرنسي خصوصاً) في هذا الشكل، بل أيضاً من خلال إعادة النظر في مقولات الجهاز النظري واختباره بنصوص عربية.

في هذه "الثلاثية" نظرٌ في تاريخ هذا الشكل من الكتابة، الذي حصر الدارسون الغربيون شروط تشكّله وتطوّره - كجنس خاص- بالثقافة الغربية؛ إلا أن المبخوت يراجع التراث السردي العربي فيعثر على آثار للسيرة الذاتية (ابن خلدون، الغزالي..) لكنه يعتبرها نصوصاً "كُتبت للإخبار عن الجانب العمومي من الشخصية (..) ولهذا كانت السير التي كتبها أصحابها بأنفسهم أشبه بالسير التي يكتبها الآخرون عنهم".

وحين نصل مع طه حسين إلى العصر الحديث، سنجد المؤلف يقول عنه وعن جيله بأن السيرة الذاتية "لم تخل من تردّد مستمر بين طابعها الذاتي والسيرة الاجتماعية". عند هذا المستوى يلفت إلى تقبل "كتاب الأيام باعتباره وثيقة"، وهي إحدى إشكاليات التعامل مع نصوص السيرة الذاتية، حيث يحذّرنا في اقتباس من "إمام الباحثين في السيرة الذاتية" (العبارة للمبخوت)، الفرنسي فيليب لوجون، أن هذا الجنس لا يمكّن من ضبط الحقيقة التاريخية بل من ضبط الحقيقة الشخصية الفردية الحميمة.

أما في "أحفاد سارق النار"، فيتصدّى الكاتب التونسي لفرع من فروع السيرة الذاتية، الفكرية منها، والتي يلاحظ بأنه لم يحدث فيها تراكم نصوص يوفّر ما يمكن أن يتخذه النقد معايير تقاس بها الثوابت والمتغيرات. وفي غياب ذلك، سيحاول المبخوت أن يبني هذا التعريف بنفسه معتبراً عماد ذلك المشروع السيرذاتي (اتخاد قرار بكتابة قصة حياته العقلية)، ومعه تحويل قصة العقل إلى قصةٍ فعلاً عبر مفهومي الحبكة والهوية السردية.

من خلال النصوص التي اختار دراستها، يصل إلى أن مجمل هذه السير الذاتية الفكرية تتضمن "قصة نجاح فردي يقتضي ضرباً من البطولة مأتاها التحدي والتمرّد والكفاح لنحت الكيان الفكري نحتاً لا يخلو من زهو وعجب بالنفس". من هنا يستنتج أن "السيرة الفكرية قائمة على أساس أسطوري يستلهم ما في شخصية بروميثيوس، وصنوه الحديث فاوست، من نزعة تمرد ونشدان للرضا عن النفس".

أخيراً، يأتي كتاب "الزعيم وظلاله"، وعنوانه الفرعي يحيل لأحد أشهر كتابات لوجون؛ "السيرة الذاتية في فرنسا"، وفيه يصل الحفر إلى منابع مياه أخرى حيث يلتقي مبحث المبخوت في السيرة الذاتية كجنس أدبي مع محاولة فهم بُنية الفضاء العام التونسي وميكانزماته.

يلفت الكاتب إلى ندرة النصوص التونسية التي ينزّلها أصحابها تنزيلاً صريحاً في نمط الكتابة السيرذاتية، حتى تسعينيات القرن الماضي، ما يدعوه إلى بناء تاريخ من مواد غير مصرّح بها كسير ذاتية. سيجد أن الفضاء السيرذاتي قد بدأت تظهر إرهاصاته في تونس كبقية البلاد العربية في بديات القرن الماضي مع أبي القاسم الشابي وبيرم التونسي والطاهر الحداد، وقبلهم بمذكرات الوزير خير الدين باشا، وهي نصوص وإن أظهرت مجموعة ذوات فردية بدأت في البروز على حساب السائد إلا أنها لم تملك مشاريع سيرذاتية مكتملة المعالم.

سرد تاريخ تبلور الفضاء السيرذاتي يتقاطع مع التاريخ السياسي للبلاد، فمع الاستقلال ومشروع بناء الدولة الوطنية تأثر الفضاء السيرذاتي من خلال وجود هوية سردية واحدة لـ"الزعيم" (الحبيب بورقيبة أول رؤساء تونس) ولإثبات ذلك يخرج المبخوت عن تقييدات التعريف الأدبي حيث يعتمد ضمن مدوّنته على سلسلة محاضرات لبورقيبة عن تاريخه الشخصي، والتي يقدّم فيها تاريخه النضالي، وبفعل التكريس أصبحت هذه الرواية هي "الأسطورة الشخصية" الوحيدة الممكنة في تونس.

لقد اعتبر "الزعيم" أن تاريخ البلاد غير قابل للإدراك دون التعرّف إلى تاريخه الشخصي؛ ادعاءٌ صدّقته النخب التونسية ومن ثم جرى الالتزام بمساحة الظل الذي تركها فوجود سيرة ذاتية أخرى كان يعني "عرقلة المشروع السيرذاتي البورقيبي" ومن ثم لا مناص من أن يكون الجميع "عابرين في ظلال الزعيم" وهو عنوان أحد فصول الكتاب، ويعقّب المبخوت قائلاً: "كل من يتفيّأ ظل الزعيم سيكون عابراً بالضرورة".

كان إسقاط بورقيبة من الحكم نهاية الثمانينيات فرصة تبلور للفضاء السيرذاتي من جديد مع ظهور مجموعة من المؤلفات السيرذاتية، غير أن المبخوت سيلاحظ أيضاً أنها محكومة بالعودة إلى الوراء وذكرى الزعيم وكأن من احتل الفضاء السيرذاتي لثلاثين عاماً من حكمه، احتل بعد ذلك ذاكرة كاتبي سيرهم الشخصية.

هنا، يصل صاحب "الطلياني" إلى حدّةٍ من النقد قلما خبرناها عند الحديث عن "آباء" الثقافة التونسية، حيث يرى في ما كتبه العروسي المطوي (كسيرة ذاتية) ما لا يستحق أن يُكتب، خصوصاً مع قارئ تدرّب على نصوص أخرى تنتمي إلى نفس الجنس الذي "لا يقبل إلا ممن لهم في الحياة ما يقولونه"، وبخصوص البشير بن سلامة يقول كان "عابراً كأيامه العابرة" (عنوان مؤلفه السيرذاتي؛ "عابرة هي الأيام").

هذه النماذج تفسّر كيف تحوّلت الديكتاتورية السياسية في تونس إلى دكتاتورية ثقافية يُسلب فيها الفرد مشروعية الحديث عن نفسه. وهي قراءةٌ من زاوية السيرة الذاتية تقدّم عناصر إجابة عن أسباب ضيق الفضاء الثقافي في تونس، المرسوم بعناية على مقاس "ظلال الزعيم"، ولا سبيل إلى توسيع هذا الفضاء سوى بمفاحجة الخطوط الوهمية والسير خطوات تحت الشمس.


تقاطعات الطلياني
ليس تقاطع شكري المبخوت (الصورة) مع السيرة الذاتية خاصاً بأعمال دراسية فحسب، فقد حملت روايته الأولى "الطلياني" (دار التنوير، 2014) هي الأخرى تقاطعات مع مسائل السيرة الذاتية. كثيرة هي المقالات والتعليقات التي أشارت إلى كون الروائي كتب سيرته بشكل ما، فيما اعتبر المؤلف في إجابة عن سؤال كهذا أنها رواية ترسم سيرة جيل. هذا الجدل يشير في حدّ ذاته إلى بعض من إشكاليات السيرة الذاتية وقدرتها على الإرباك. 

دلالات
المساهمون