صدر قديماً: "موسم الهجرة إلى الشمال" لـ الطيب صالح

14 يوليو 2018
الطيب صالح
+ الخط -

منذ نشرها عام 1966، أخذت رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" مكانة باعتبارها من أهم الأعمال السردية العربية، إن لم تكن أهمها في استكشاف علاقة المثقف العربي بأوروبا بشكل خاص، والإنسان المهاجر إلى إحدى الدول الشقراء قادماً من مستعمرة سابقة لتلك الدولة.

العمل كتبه الروائي السوداني الطيب صالح (1929- 2009)، الذي حلّت ذكرى ميلاده أول أمس الخميس، وهي بمثابة هجاء مرير للمشروع الأوروبي الذي زال وجوده كآلة على الأرض وبقيت آثاره تحكم العلاقة بين العالمين، نلمس ذلك عبر تحولات مصطفى سعيد: الطالب النابغ والغامض والمحبوب الذي تحوّل إلى شخصية فظيعة، واستخدم صالح كل ما وقع تحت يده من السحري والواقعي؛ ليثري تعقيدات هذه الشخصية المركبة والتحوّل المخيف الذي سيقع عليها.

الرواية قصيرة نسبياً (172 صفحة) يقابل فيها الكاتب بين مغامرة الفرد وسكون الجماعة، ويشرح المجتمع السوداني ما بعد الاستعمار، ما يضمّنها الكثير من نقد الذات ونقد الكولونيالية. لا ننسى أيضاً أنها كتبت بعد عشرة أعوام فقط من استقلال السودان من الاستعمار البريطاني سنة 1955، ما يجعل منها عملاً يعلن نهاية مرحلة ويفتح على مرحلة أخرى في القرن العشرين من الذاتية ومن انعدام اليقين وغموض مشاعر المستعمَر تجاه المستعمِر السابق.

يوظف صالح موروث القصّ الشعبي حيث التوجه إلى القارئ منذ الصفحة الأولى "يا سادتي"، ويستفيد من أسلوب "ألف ليلة وليلة"، حيث الحكاية التي تنبع من حكاية أو تخفي حكاية، كما تتداول الشخصيتان الأساسيتان فعل الإخبار، يمكّنهما الكاتب من تقنيات مختلفة تجعل كلاً منهما يحضر وهو غائب ويغيب وهو حاضر؛ من خلال مذكرات سعيد وشهادات حوله ومراسلات مع من عرفوه أو صوته هو نفسه، أساليب تفيد في تسيير زمانين في وقت واحد، ماضي سعيد وحاضر الراوي.

يتمكّن صالح من تحويل الرواية لغزاً يقترب في غموضه من رواية بوليسية، الرواي ينقّب في حياة سعيد، في حقيقة اختفائه، في حياته الخاصة، يسأل هنا وهناك، ينقل أمتعته النفسية للعيش في حياة شخص آخر، قبل أن يعود مصدوماً إلى الواقع، على وقع انتحار زوجة سعيد. ثمة أسلوب استقصائي يتتبع حياة شخص مختف، يزعم الجميع أن الفيضان جرفه، ويُمكن الاعتقاد أنه انتحر أو أنه فقط اختفى.

هذه الرحلة التي يقوم بها الرواي وقد أصبح مهووساً بسعيد، تكشف عن تقاطعات كبيرة بين الشخصيتين، بحيث يبدو أن أحدهما اختفى لكي يتمكّن الآخر من الوجود؛ لكن الرحلة التي هدفها استكشاف مصطفى سعيد وكأنه قارة سوداء وغامضة، تنقلب من رحلة البحث عن شخص في الخارج إلى رحلة في الداخل، تصير الأسئلة عن حياة الراوي نفسه، وعن علاقته بمجتمعه وعن احتجاجاته الدفينة عليه، وعن ذاته المفقودة داخل المرآة التي حين ينظر إليها في نهاية الرواية لن يرى فيها أحداً.

مصطفى سعيد بغموضه ومثاليته ثم شيطانيته يمثّل مجازاً مروِّعاً يليق بكل ما في العلاقة مع المستعمِر من تعقيدات وطبقات. ما الذي يمكن أن يحدث لرجل من بيئة "متأخرة" اجتماعياً وتعليمياً، حين ينتقل إلى بلاد الثقافة والفن، حين ينتقل من "قلب الظلام" إلى الضوء القوي حيث يحدث كل شيء في وضح النهار، الموسيقى والحب والجنس والعلاقات والاختلافات السياسية والثقافية؟ هذا الضوء الإنكليزي أو الأوروبي مثّل لسعيد قلباً لظلام من نوع آخر، ظلام ما يجهل وظلام التاريخ الثقيل الذي يحمله.

لعبت الحياة الجنسية لمصطفى سعيد دور المحرك الأكبر للأحداث في لندن، هناك تسع شخصيات نسائية أعطى الكاتب لكل واحدة منهن دوراً يظهر في وقته، إذ تعيش الشخصيات طيلة العمل، حتى يأتي أوانها الحقيقي فتظهر كطاقة جديدة تعطي الرواية عمقاً ومعنى جديداً، مثلما فعلت حسنة، التي يمكن اعتبارها انعكاساً مؤنثاً لمُعضلات مصطفى سعيد نفسها. بل إن كليهما يقتل، سعيد يقتل زوجته البريطانية، وحسنة تقتل زوجها العجوز.

تسبّب الصدام الثقافي المرير، هذا الماضي الاستعماري مقابل التخلّف السياسي والاجتماعي والثقافي في السودان، في خلق فرانكشتاين مصطفى سعيد: القاتل والذي دفع بعشيقاته إلى الانتحار، ورأى في المرأة البريطانية جزءاً من الماضي الاستعماري الذي لا بد من مقاومته أو الانتقام منه؛ المتخبط الأكبر، المستعد للتخلي عن المستقبل، وعن احتمال العودة إلى بلاده أو البقاء في غربته، الغارق في حالة عدمية من تدمير الذات.

في الرواية ثمة أربع رحلات، رحلة مصطفى سعيد من السودان إلى لندن، ثم رحلته الأعمق في عتمة القلب والذات، وهي مرتبطة بالبعد عن المكان الأم. ثم هناك رحلة الراوي من لندن إلى السودان، ورحلته في التعرف إلى مصطفى سعيد، والذي من خلاله يتعرف إلى بلاده ونفسه من جديد.

هذه قصة من؟ مصطفى سعيد أم الراوي نفسه؟ ماذا نظن وقد قتل الكاتب الشخصية الأساسية بينما الرواية ما زالت في أولها، ليتكفل الراوي بإكمالها. ليس مستغرباً إذاً أن نجد لدى قارئ واحد تفسيرات مختلفة للحكاية، فلا يمكن العثور على مركز لها، بل إنها خير مثال على منطق التفكيك في السرد: حيث الزمن يمكن فكه بسهولة عن الحاضر، واللغة منقطعة عن الزمن، وأحداث كثيرة تبدو غير منطقية بل ومفاجئة في عنفها وكأنها منفصلة عن الواقع.

تمكن قراءة العمل أيضاً في سياق نفسي، إذا اعتبرنا أن وجود مذكرات مصطفى سعيد والدخول إلى غرفته التي تحوي كتبه الإنكليزية والمرآة وأغراضه المتعلقة بماضيه في لندن والمدفأة التي لا يمكن أن يحتاجها في بلاده الحارة، كرحلة إبحار نفسية وتفحّص للطريقة التي تصدعت بها ذاته. ويمكن كذلك أن نقرأها بشكل فلسفي فنقول إن الرواية تستشكف العدمية في صلب المشروع الإنساني برمته وإن الحياة محفوفة بالأوهام.

المساهمون