كاتب الفرنكوفونية المكرّس والشحرور الأبيض

04 فبراير 2019
(محمد شكري)
+ الخط -

في كتابه "جان جينيه، الكاذِبُ المُتعالي"، يُفسح الطاهر بن جلّون، الكاتب الفرنكوفوني المكرَّس، لذاكرته أن تطلق العنان لجموحها "المتعالي"، فبدون خيال جامح لا يجوز له أن يصطفَّ في طابور الكبار، ذاك ما يظنّه رجل "الغونكور" الذي يصلّي صلاة الميِّت جلوساً، وكذلك تعلَّم أبجدية الكتابة من الأعالي، مثلما يتعلّم الشاعر الكذبَ الأبيض، بتعبير الشاعر المغربي المهدي أخريف، ليكون الشعرُ أعذب، أوَ ليس أعذبُ الشعر أكذبه؟

لكن بن جلّون - الذي يستضيفه معرض الكتاب في الدار البيضاء نهاية هذا الأسبوع- عرف في السنوات الأخيرة، سقطاتٍ لا تُحصى، ليس أقلها التطبيع مع الكيان الصهيوني منذ شباط/فبراير 1999 (في زمن حكومة نتنياهو الأولى)، بدعوى تقديم ترجمة عبرية لـ"العنصرية كما فسّرتُها لابنتي"، هو الذي كان يعلن مساندته لقضية وحقوق الشعب الفلسطيني، وصداقته لمحمود درويش وشعراء المقاومة، وكتب عن ميثاق الصداقة في كتابه "من جراحاتها ماتت أشجار اللوز"، فعاد وفضّل مصالحه على الوفاء بالميثاق... وما معنى تبريراته، بخصوص صمته عن فظاعات مغرب الجمر والرصاص؟

عند إصداره "تلك العتمة الباهرة"، واجه اتهامات وإدانات، لأنه وهو المنخرط في مشروع "أنفاس"، وهو ينعم بالسكينة في فرنسا، وبمنأى عن أي ملاحقة، تعامى عمّا حدث في المغرب من انتهاكات لحقوق الإنسان، ولم يكن ثمّة معنى لإصداره بعد فوات الأوان روايةً في أدب السجون، بعد أفول سنوات العتمة وتحوّلها إلى جثة باهرة، سوى متاجرته بهذه القضية، ما يكشف عن عادة ستتكرّر في أكثر من مناسبة، لعلّ آخرها توجيه حرابه نحو محمد شكري.

أثار بن جلّون موضوع علاقة شكري بجان جينيه، فاعتبر الأخير معلّم الأول، وحكى وقائع مزعومة عن ترجمته لسيرة شكري؛ "الخبز الحافي"، لكن ما يثيرُ هو النية المبيَّتة في أن يسرق الأضواء من سيرة شكري الذي أصبح كاتباً مرموقاً بعد أن شقّ طريقه بكثير من المعاناة والإصرار.

أمّا "الطاهر" فيريد أن يحوِّله إلى مجرّدَ شبحٍ في حلقة رواة بولز، مثل العربي العياشي وأحمد اليعقوبي وعبدالسلام بوالعيش ومحمد المرابط... أمرٌ سبق أن أثار استهجان شكري حينما خطَّه بن جلّون في "لوموند" فتدخّل محمد برادة، وهنا شهادته التي يقول فيها: "بعد اختتام المؤتمر، نشر بن جلّون عموداً في جريدة "لوموند"، ووصف شكري بأنه كاتب أمّي، نظير الشرادي، صاحب "حياة مليئة بالثقوب" التي نشرها بولز، فغضب شكري واتصل بي للاحتجاج، فاتصلتُ بالطاهر لأشرح له الحقيقة، ولأبلغه بأن النص موجود وأنه يجب أن يقرأه، لأن ذلك يمكن أن يحفّزه على ترجمته. وهكذا التقيا في طنجة، وهو ما نتج عنه ترجمة الكتاب إلى الفرنسية".

لكن بن جلّون عاد ثانية في كتابه عن جان جينيه ليعيد الكلام ذاته، معتبراً أن شكري تعرّف في طنجة على بولز "الذي كان يجتمع مع شلّة من الشباب المغاربة الهامشيّين في غالب الأحيان، ويسألهم أن يحكوا له حيواتهم، وكان يسجّلهم عبر آلة تسجيل، وينشر في الولايات المتّحدة محكياتهم بعد إخضاعها للكتابة والترجمة بحسب هواه وبلا رقيب. شكري دخل لعبته وكان نتاج ذلك ولادة كتابه "من أجل الخبز وحده".

يتحدّث بن جلّون عن لقائه بشكري بعد نشر كتابه في الولايات المتّحدة عام 1973، وبعد تذكيره بخلاف شكري مع بولز أثناء لقائهما يؤكّدُ: "بعدها بمدةٍ سيحثُّني صديق مشترك، هو محمد برادة، على ترجمة هذا النص".

ولاحقاً، قال بن جلّون إنه، على امتداد ستة أشهر، كان يتلقّى أوراقاً منفصلة من دون أن يتسلّم نصاً ناجزاً: "في اللحظة التي كنتُ فيها سأبدأ ترجمة السيرة الذاتية لشكري، "الخبز الحافي"، اكتشفتُ خدعة بولز. لمَّا كنتُ أطالبه بمخطوط الكتاب، كنتُ أكتشفُ أنه غير موجود. كان شكري يحملُ إليَّ كل يومٍ خمس أو ستّ أوراقٍ كُتبتِ البارحة".

كلام الطاهر بن جلّون بعد رحيل محمد شكري هو شهادة مثقوبة لا يُعتدُّ بها... مجرَّدُ رصاصات طائشة، لم يكن الطاهر ليتجرّأ على لفظها أمام شكري أثناء حياته، ولا ندري ما يقصده، هل ينسب فعل الكتابة إلى الترجمة؟ لكنه يقرُّ بوجود نص إنكليزي سابق على الترجمة الفرنسية، ويشهد على وجود النص العربي محمد برادة الذي سلّم منه نسخة لسهيل إدريس لنشره في "دار الآداب"، ثم بين نشر الأصل العربي والترجمة الفرنسية سنتان فحسب، وشكري ليس هو "الخبز الحافي" فقط، هو أيضاً "مجنون الورد" و"الخيمة" و"السوق الداخلي" و"زمن الأخطاء"، و"غواية الشحرور الأبيض" و"بول بولز وعزلة طنجة" و"جان جينيه في طنجة" و"تينيسي وليامز في طنجة".

صعبٌ أن نتّفق أن ترجمةً ما تخلق أصلاً، ولا أن يكون شكري ترجم سيرته عن بن جلون الذي يَبْتَلِعُ ولا يُبْتَلَعُ بسهولة، ومن أراد التأكد ليسألْ عزيز بينبين، عن الليلة الباهرة، وعن التسوية الصعبة بين الكاتبَين الضمني والفعلي.


* مترجم وكاتب من المغرب

المساهمون