"الملك الأخير في دمشق": عمّا حدث قبل مائة عام

16 فبراير 2020
(قرب سكّة حديد الحجاز في دمشق عام 2010، Getty)
+ الخط -

في الأدب العربي لدينا روايات استلهمت جزئياً أو كلياً أحداث "الثورة العربية الكبرى" (1916 - 1918)، وصولاً إلى إعلان الأمير فيصل تشكيل الحكومة العربية في دمشق وإعلان الاستقلال في 8 آذار/ مارس 1920، وتتويجه ملكاً دستورياً على سورية، ليكون بذلك الملك الأول والأخير. ومن ذلك لدينا روايات تشير بالعنوان إلى الأمير/ الملك فيصل، مثل رواية خالد زيادة "حكاية فيصل" التي صدرت عام 1999، ورواية الكاتبة الأميركية جنيفر ل. أرمسترونغ "الملك الأخير في دمشق" التي صدرت عام 2008.

ما نعرفه من معلومات عن المؤلّفة؛ أنها وُلدت عام 1983 ودرست اللاهوت في "كلية أمباسدور" في كاليفورنيا خلال 1989-1993، وقامت خلال دراستها في 1992 بالمشاركة في حملة تنقيب عن الآثار في موقع تل القضاة شمالي شرق مدينة صفد المحتلة، وهو ما جعلها تتجه إلى الاهتمام بالمنطقة العربية من كلّ جوانبها.

في 1999 نشرت أوّل رواياتها "إنسان طيب". وفي 2001، أسّست دار نشر إلكترونية متخصّصة بالرواية لكي تكون في تصرّف القراء والكتّاب معاً، ومن رواياتها التي يمكن ذكرها "النبي" (2011) التي تدور حول رحلة شابة أميركية إلى القدس تجمع بين الرومانسية والمغامرة. ومن كتبها الأخرى يجدر ذكْر "الحلم بالعربية" (2009)، الذي "غيّر فهمها لإسرائيل وديانتها المسيحية" .

كما هو الأمر مع "النبي" لدينا في رواية "ملك دمشق الأخير" ما يجمع الرومانسية التاريخية والمغامرة، ومقاربة العرب في رؤيتهم لحلمهم بالاستقلال و"خيانة الحلفاء" لهم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وانتفاء الحاجة إليهم. ومع ذلك يمكن القول إن هذا العمل الفني إنما هو أقرب إلى رواية لليافعين أو الشباب، خاصة أنه يشتمل على صور فوتوغرافية من ذلك الوقت للشخصيات والمواقع المذكورة في السياق الروائي المشوّق (ساحة الشهداء، والأمير فيصل، ومشاهد من مسار الثورة العربية إلخ).

تبدأ الرواية بوصول الشاب الكندي توماس لورنس إلى مطار دمشق، وسرعان ما نفهم أنّ أُمّه سورية جاءت إلى كندا للدراسة وتعرفت إلى أبيه، وهي من شجعته الآن على الذهاب إلى سورية والتعرّف إلى جدّه عيد توما، وخالته مريم المطلقة التي لا تجيد سوى التحدّث "عن مرافقة والدها للأمير فيصل خلال الثورة العربية ضد الأتراك" (ص 4).

كان جدّه عيد توما يعتقد أنه "طالما أنه يعرف الإنكليزية فإن كلّ واحد في أميركا الشمالية يعرف العربية"، لكنه فوجئ بأن حفيده لا يعرف العربية ولا يعرف تاريخ العائلة (ومن ذلك مشاركة الجدّ في الثورة العربية مع الأمير فيصل)، ولذلك يخطّط لكي يعرف الأمرين. وفي المقابل اهتمّ الحفيد بمعرفة الكتاب الذي كان الجدّ يقرأ فيه فلما عرف أنه الكتاب المقّدس فوجئ بأنه مترجم إلى اللغة العربية أيضاً!

في اليوم الأول، يبدأ مسلسل التشويق في الرواية حين تصل من تحت باب الشقة رسالة بالعربية من فتاة تقول: "سأكون في القاعة الخاصة في "المتحف الوطني" عند الساعة الواحدة، ساعدوني رجاء، لا تخبروا أحداً!". وهكذا في اليوم التالي، يذهب توماس وابن خالته نيناد إلى المتحف حيث فوجئ توماس بما فيه من تحف ومن ثم توقّف عند صورة كبيرة للأمير فيصل وسأل عنها فأجابه نيناد "إنه أحد أبناء شريف مكّة"، وحدّثه عما يعني ذلك، وعن حالة البلاد تحت الحكم العثماني، وإعدامات أيار/ مايو 1916 وصيحة الأمير فيصل المشهورة "طاب الموت يا عرب!" (ص 14).

وبعد ذلك، انغمس نيناد في شرح ما جرى وكيف دخَل جيش الثورة العربية إلى دمشق في صباح 1 تشرين الأول/ أكتوبر 1918: "دخل فيصل إلى دمشق كبطل حيث قوبل بحماس جماهيري.. أعتقد أنه كان وراء فيصل حوالي 1500 فارس، بعد أن وصل جيش الثورة العربية قبله بعدّة أيام، وأسقط العلم التركي ورُفع العلم العربي".

ولكن هذه الفرحة لم تطل حيث تابع نيناد سرده لما حدث وصولاً إلى "خيانة الحلفاء"، فيقول: "استدعى القائد البريطاني الجنرال ألنبي الأميرَ فيصل والتقاه في أحد الفنادق وقال له إن لفرنسا مصالح في سورية.. بعد ذلك عُقد مؤتمر عربي وجعلوا فيصل ملكاً عليها. ثمّ اجتمعت القوى الأوروبية في مكان يدعى سان ريمو وقسّموا سورية. أخذت فرنسا سورية (الحالية) ولبنان، بينما أخذت بريطانيا فلسطين وشرق الأردن والعراق. انظُر.. كلّ هذه على الخريطة هنا". ولكن توماس كان يركّز على مقال حول مؤتمر الصلح في فرساي الذي حضره فيصل "ولكن لم توافق أية قوة أوروبية على منح الاستقلال للعرب الذين قاتلوا لأجله" (ص 15).

ضمن المواد المعروضة في القاعة كانت صورة متفجرات تستخدم لتدمير سكّة حديد الحجاز، وهنا تدخّل نيناد للشرح بأن القطارات كانت تحمل المؤن للحامية المحاصرة في المدينة، ولذلك حاصروا قطاراً كان يحتوي "على طعام وشراب ودخان". وهنا، تبرز مرة أخرى صورة الأمير فيصل ببعد جديد. فنظراً لأنه كان مدمناً على الدخان، فقد قدّر وضع الجنود المحاصرين في المدينة، ولذلك سمح فقط بحمل الدخان على بغال وإيصاله إلى الحامية العثمانية هناك. ولمّا استغرب توماس هذا التصرّف "مع الأعداء" أجابه نيناد: "نعم، هذا ما جعل فيصل قائداً جيداً.. أعتقد أن قوّته الأهمّ كانت في قدرته على جمع كلّ قادة العرب معاً والقتال تحت علم واحد" (ص 16).

بعد هذا الحديث، انتبه نيناند وتوماس إلى أن الوقت فات على وصول الفتاة صاحبة الرسالة المحتاجة إلى المساعدة، ولذلك اقترح نيناد على توماس أن يقوما بجولة في المدينة شملت ساحة الشهداء (المرجة)، ومحطّة الحجاز، و"جامعة دمشق"، وساحة الأمويين إلخ.

في اليوم الثاني، كانت الجولة في دمشق القديمة مع الجد واشتملت على "الشارع المستقيم" (شارع مدحت باشا) وحديث الجدّ عن وجود المسيحيين هنا وعن التعايش الديني. وفي بحثهم عن مكتبة ورد ذكر "شارع الملك فيصل"، ولمّا أراد توماس التأكد من أن ذلك يخصّ الملك فيصل الذي سمع عنه البارحة أجابه نيناد: "نعم، كان الملك الأخير لسورية، وهو يستحق ذلك بالتأكيد" (ص 32).

عند رجوعهم إلى البيت، وجدوا رسالة أخرى من الفتاة المحتاجة إلى المساعدة تطلب منهم أن يلحقوا بها إلى "خان ميسلون". ولمّا سأل توماس عن هذا الموقع أجابه نيناد: "إنه مكان لموقعة معروفة. كلّ ما أعرفه أن يوسف العظمة توفي هناك. إنه شهيد معروف لأنه قاتل القوات الفرنسية التي حاولت احتلال دمشق. كان ذلك الوقت الذي كان على الملك فيصل أن يغادر" (ص 35).

مع هذه المعلومات الجديدة، فوجئ توماس في اليوم التالي حين وصل إلى ميسلون بعدم الاهتمام بالمكان: "لا يوجد هنا سوى التراب والصخور.. إنه ليس بمقصد سياحي. ما الذي حدث هنا بالضبط؟". في هذه الحالة، تولّى نيناد توضيح ما حصل: "حين جاء الوقت لنحصل على الاستقلال أُعطيت فلسطين لليهود وسورية لفرنسا. مع ذلك كان العرب قد أعلنوا فيصل ملكاً على سورية الكبرى. هل تعرف أن سورية كانت آنذاك أكبر من ذلك بكثير؟ فرنسا طلبت من فيصل الرحيل عن البلاد وطلب فيصل من رجاله عدم القتال، ولكن وزير الحربية يوسف العظمة أصرّ على الذهاب والقتال، وها هو هنا ضريح وزير الحربية يوسف العظمة" (ص 42).

في خضم هذا الشرح عن التاريخ، يدخل عنصر التشويق مرّة أخرى بتوقّف سيارة أجرة صفراء اللون، ويقوم السائق بتسليم نيناد مغلّفاً فسارع لفتحه ليجد الاستغاثة من الفتاة المجهولة: "لقد خُطفت إلى وادي رم، لا أعرف متى سأرى دمشق مرّة أخرى. أنتم أملي الوحيد. أنتم الوحيدون القادرون على مساعدتي".

وعندما يتحمّس توماس للذهاب إلى وادي رم فوراً، يكتشف أنه في دولة مجاورة (الأردن)، وبالتالي عليهم العودة إلى البيت والاستعداد للسفر في اليوم التالي. وهنا يقترح نيناد أن يذهب الجد توما معهم ليحدثهم عن "الثورة العربية"، ولمّا يسأل توماس عن علاقة وادي رم بـ "الثورة العربية"، يوضّح نيناد "أنه أحد الأمكنة التي كان فيها لورنس"، ليفتح بذلك الحديث لاحقاً عن لورنس ودوره في "الثورة العربية".

في الطريق كان لا بدّ من المرور بعمّان، والتوقف هناك عند يوحنا صديق الجدّ توما، حيث يقوم بدوره في توضيح "خيانة الحلفاء" للعرب. يسرد يوحنا ما لديه بالقول: "عقدت بريطانيا اتفاقيتين، الأولى مع فرنسا والثانية مع العرب. كانت الأولى تشمل تقسيم سورية وبلاد الرافدين بعد نهاية الحرب. أما الثانية مع العرب، فتنصّ على نيلهم الاستقلال بعد نهاية الحرب". ولكن الجد عيد تدخّل بالقول: "في الواقع كانت ثلاث اتفاقيات إذا ضَمَمْتَ إليها الاتفاقية مع اليهود".

وهنا، يتابع يوحنا حديثه قائلاً: "نعم، كانت تعطي فلسطين لليهود. كانت فلسطين آنذاك موطناً للعرب، وكان الكثير منهم نصارى، خاصة في القدس وبيت لحم والناصرة. وبسبب ذلك خسر العديد من إخوتنا وأخواتنا أملاكهم في النزاع مع اليهود" (ص 50).

مع الوصول إلى وادي رم، لم يجدوا الفتاة المجهولة، وحين سأل توماس عن سبب اختطافها يوضّح الجدّ عيد: "حدسي يقول إنها متزوجة من أحد لم تكن تريده. إن هذا لا يزال يحدث، ليس كما في الماضي ولكن الناس لا يزالون يحتفظون بتقاليدهم" (ص 54).

في الطريق إلى العقبة، يقترح الجدّ عيد السير في الطريق الموازي لسكّة حديد الحجاز، مما يسمح له بالحديث عن دور السكّة في "الثورة العربية" ولورنس بشكل خاص. يقول هنا: "ها هو القطار الذي كان ينقل الحجاج إلى مكة ولكنه كان ينقل أيضاً القوات التركية لقتال العرب في الحجاز. كان لورنس مع فيصل في أحد الأيام عندما شعر بالمرض. وبينما هو يتعافى في خيمته خطرت له فكرة: "أفضل وسيلة لمهاجمة الأتراك هي مهاجمة قطاراتهم، أو تشكيل مجموعات صغيرة تقوم بتفجير سكة الحديد مما يخلق المشاكل للأتراك بحرمانهم من المؤن" (ص 57).

كان الحديث عن لورنس فرصة لتوماس لكي يسمع رأي العرب فيه. وحين يسأل الجدّ عيد عن حدوث معارك مع الأتراك يجيبه: "نعم، ولكن لورنس كان حريصاً على حياة (المقاتلين) العرب. لذلك كانت خطّته تقوم على خلق أكبر قدر من المشاكل للأتراك دون خسارة أي واحد من رجاله"، وهو ما جعل توماس يعبّر عن إعجابه بـ "فلسفة لورنس" (ص 58).

بعد زيارة العقبة ووادي موسى، وسماع المزيد عن "الثورة العربية"، يعود الجميع إلى دمشق. وفي اليوم التالي، يزور توماس مع نيناد دمشق القديمة، وبالذات الرموز الموحية للعلاقة بين الشرق والغرب مثل الجامع الأموي وضريح القديس يوحنا المعمدان وضريح صلاح الدين الأيوبي، ثم يبحث في السوق المجاور عن شطرنج مطعّم بالصدَف هدية لوالده في كندا، وهي كانت فرصة ليتعرّف إلى "ثقافة المساومة" في السوق (ص 103).

ولكن "الرسائل المجهولة" لا تنقطع، حيث تصل آخر رسالة تقول فيها "الفتاة المجهولة": "قابلوني في الشرفة غداً الساعة 12". وفي اليوم التالي، لم يأت أحد ثم يكتشف توماس أن الجدّ عيد كان وراء هذه الرسائل ليجعل حفيده يتعرّف إلى تاريخ المنطقة التي بدأت تتغير بسرعة مع "الثورة العربية"، التي شارك فيها الجدّ عيد لتنتهي الرواية بتصميم توماس على الاستمرار في الزيارة وتعلّم اللغة العربية (ص 109).

في الرواية حرصت المؤلفة على أمريْن غير مألوفين. فقد وضعت في الحوار الكثير من التعابير العربية (عفواً، مرحباً، عمّة، مدرسة، أهلاً وسهلاً، بدّك تشرب قهوة؟ اسكتْ، هُس! بعدين إلخ)؛ جمعت ما بين الفصحى والعامية لتوحي بمعرفتها بالمنطقة ولغتها وثقافتها، ولكنها كانت أحياناً تشمل بعض الأخطاء التي لا تتّسق مع النسق أو الأصل العربي.

وأما الأمر الآخر، فيتمثّل في حرصها على وضع العديد من الصور الفوتوغرافية (من بداية القرن العشرين التي تدور فيها الأحداث عن الثورة العربية والأمير/ الملك فيصل ومعركة ميسلون الخ)، مما يجعلها مع الحبكة المفتعلة أقرب إلى رواية مناسبة لليافعين أو الشباب، دون أن يغيب عن هذا هدفها المباشر: النجاح في جذب الشاب توماس إلى أصوله العربية وقراره بتعلّم لغة أمّه السورية.

المساهمون