تفاصيل الحلم الياباني

24 اغسطس 2019
صورة رقمية للوحة "الكنيسة في أوفيرس"، 1890 (من المعرض)
+ الخط -

في منتصف القرن التاسع عشر، ازدهر التبادل التجاري بين القارة الأوروبية والشرق الأقصى، ومنها هولندا التي كانت سفنها ترسو في جزيرة دييما اليابانية التي اعتُبرت محطّة أساسية لها في المحيط الهادئ، ومنها تأتي البضائع والمشغولات الفنية على اختلاف أنواعها.

سادت ظاهرة "الجابونيزم" في أوساط الفنانين الأوروبيّين خلال تلك المرحلة، متأثّرين بالنقوش والزخارف على الخشب، وبتجارب رسّامين يابانيّين مثل كاتسوشيكا هوكوساي وأندو هيروشيغه، حيث جرى توظيفها في أعمال كلود مونيه وبول سيروزييه وإدوارد مانيه وآخرين.

"فان كوخ/ هائم باليابان/ مقطع شعري" عنوان المعرض الذي يتواصل في "إتيليه دي لوميير" بباريس حتى الحادي والثلاثين من كانون الأول/ ديسمبر المقبل، ويضمّ نسخاً رقمية من لوحات رسمها الفنان الهولندي (1853 - 1890) في السنوات الثلاث قبل رحيله.

يبدو افتتان صاحب لوحة "عبّاد الشمس" بتلك الرسوم والرموز الشرقية مختلفاً عن مجايليه، إذ أقدم سنة 1887 على شراء قرابة ستمئة رسم ياباني ملوّن مطبوع على الخشب بغرض الاتجار بها، ليتمكّن من الاستقلال مادياً عن أخيه ثيو الذي ظلّ ينفق عليه طوال حياته من إيرادات قاعة عرض الفنون التي كان يمتلكها.

بعد إخفاقه في مشروعه التجاري، قرّر غوخ إهداء بعض تلك الأعمال إلى أصدقائه وشقيقته فيلمين ولطبيبه بول جاشيت الذي عالجه بعد إطلاقه النار على نفسه، ثم مغادرة باريس باتجاه الجنوب الفرنسي مع ما بقي معه من رسومات ستشكّل أبرز التأثيرات على فنّه.

ليس غريباً أن يتوجه افتتانه نحو شجرة اللوز والزهور التي ستتسرّب إلى لوحاته، ومنها "ليلة مرصّعة بالنجوم فوق نهر الرون"، و"ساحة كنيسة تحت المطر"، وسيكتب إلى شقيقه عام 1888 رسالةً يقول فيها: "لن نكون قادرين على دراسة الفن الياباني، ما يبدو لي أننا لن نصبح أكثر سعادة وأكثر ابتهاجاً"، مضيفاً: "كلّ عملي قائم إلى حدٍ ما على الفن الياباني".

وسيرسم أيضاً أشجاراً تظهر أجزاؤها العليا مقطوعة في هيئة غير مألوفة، تشبه في شكلها بعض اللوحات اليابانية التي اقتناها، وكذلك في محاكاته لفروعها الدقيقة والمتشابكة، أو في طريقة رسمه لبراعم الزهور قبل تفتحها، أو في تصويره زهرة السوسن.

في تلك الأعوام، سيكتشف غوخ تقنيات جديدة وأساليب مختلفة في التلوين تميل إلى التكثيف وتكرار بعض التفاصيل بأشكال شبه متماثلة، والتي يرى بعض النقّاد أنها أولى ملامح التجريد من دون أن يتقصّدها، ويتّضح ذلك في رسمه للعشب في الحقول.

تماهى الفنان الهولندي مع "يابانيته" التي تَمثّلها كحنين إلى الطفولة والجذور، وعبّر عن رغبته في السفر إلى اليابان، بل وكان يتخيّل كثيراً من التفاصيل التي قرأها عن تلك البلاد البعيدة، وكان ينوي أن يطّلع على الدراسات الشرقية لكنه لم يفعل، ويشير بعض المؤرّخين إلى أنه قص شعره على طريقة اليابانيين.

لم تطبع تلك المؤثّرات تجربته بشكل تامٍ أو متطابق، إذ رسم العديد من المناظر الطبيعية التي تبدو أقرب إلى محيطه، وخاصة تلك التي يرسمها من علٍ أو من زاوية "عين الطائر"، لكنه وصفها ذات يوم بقوله: "لا تبدو يابانية، إنها في الحقيقة أكثر الأشياء اليابانية التي قمت بها"، وكان يطلق على تلك البانوراما المشهدية التي تحتوي الحشرات والطيور والزهور بأنها "الحلم الياناني"، لأنه رأى فيها أناقة الطبيعة غير المقيّدة.

المساهمون