الروائي والحقيقة

11 يناير 2019
عزة الشريف/ سورية
+ الخط -

لا يُخفي الروائي الأميركي بول أوستر يهوديته كثقافة مرجعية، وفي معظم رواياته تكون اليهودية واحدة من المكونات الرئيسية لثقافة شخصياته أيضاً، حيث ترى كيف يستخدم معظم الرموز التوراتية في إشاراته الأدبية، كما ترى أن شخصياته تُعلن عن يهوديتها، لا لتناقش موضوع الإيمان أو العبادات، بل للتدخُّل في الوضع البشري.

وفي الغالب، فإن القارئ يستخلص أن يهوديتهم أفضت إلى اضطهادهم من قبل قوى عديدة في التاريخ، وسوف نرى تكرار الإشارات إلى الهولوكوست الذي تعرّضوا له في أكثر من مرحلة تاريخية؛ بحيث بات المكان الوحيد الذي يضمن بقاءهم أحراراً آمنين من العزلة والطرد، بحسب ما يعلن الروائي عن شخصياته، هو فلسطين التي يذكرها صراحةً كأرض نهائية لليهودي.

في روايته "1234"، نجده يصرّح بأن فيرغسون ودانا عرفا أن علاقتهما لم تكن إلا شأناً عابراً، وأن أميركا مكانه، وليس مكانها، وأنها تتريّث حتى التخرُّج، وعندها ستُيمّم وجهها شطر "إسرائيل" لتعيش في مزرعة جماعية بين البحر والجليل ومرتفعات الجولان. ذلك أن ـ الكلام الآن لبول أوستر ـ "كل ما أرادَته، (المقصود دانا) لا جامعة، لا كتب، لا أفكار كبيرة، فقط أن تزرع نفسها في مكان ما مع النفوس الأخرى، وتفعل ما تشاء فعله، كي تنتمي إلى (بلد لن يطردها خارجه)". وهذا البلد بالطبع هو فلسطين، بالنسبة إلينا، نحن العرب، و"إسرائيل" بالنسبة إليه كيهودي. (يضع الناشر والمترجم تصويبات لهذا في الهوامش).

يثير موقف أوستر الذي يتجاهل مأساة الفلسطينيين شبهات كثيرة حول موقف الروائيّين من القضايا الإنسانية. المعتاد القول إن الأدب لا يفاوض على الحقيقة الإنسانية، غير أن الروائي يكسر هذه القاعدة هنا، إذا كانت تلك قاعدة فعلاً، حيث يُبدي في الرواية لامبالاة مقصودة لمأساة شعب كالشعب الفلسطيني، كي يؤكّد فقط على مأساة المجموعة الدينية أو الإثنية التي ينتمي إليها.

وكما يشير هو نفسه في "كتاب الذاكرة"، فإن كلّ قصة تتضمّن الكثير من المعاني الرمزية، فإذا قال لك شخص في الواقع المعيش: "أنا ذاهب إلى أورشليم" (الملاحَظ أنه لن يقول أنا ذاهب إلى القدس مثلاً)، فإن تفاعلك مع كلامه يختلف عن تفاعلك مع الجملة ذاتها لو قيلت في رواية، أي إذا قال ذلك شخص في رواية، فهنا تفكّر في الدلالات، أي بالدلالة الدينية للمدينة "أو دورها كمكان ميتافيزيقي". وهذا صحيح ومؤشر إلى أن استخدام الرمز لديه يشير إلى يقين ثقافي لا يحفل البتّة بمصير الفلسطيني.

يعرف أوستر التاريخ المعاصر جيّداً، ويعلم كل شيء عمّا حدث في النصف الأول من القرن العشرين في فلسطين، ويعلم أيضاً أنه في كل مرّة يجد اليهودي أماناً له في فلسطين، أو في "إسرائيل" لاحقاً، بحسب الروائي، يكون قد طَرد أو اقتلع فلسطينياً من أرضه. وهنا فإن المسألة تتجاوز حرية الروائي في أن يرى الحقيقة كما يريد، إذ إن الموقف الأخلاقي والإنساني لا يَحتمل أن نرى بعين واحدة.

المساهمون