إن البحث عن معنى محدّد للحداثة يضعنا في متاهة لا مخرج منها، إذ وُضعت لها تعريفات كثيرة، وهي تنطلق في كلّيتها من النهضة الأوروبية أو الإصلاح الديني أو الأنوار أو من الثورات الغربية بشكل عام.
كيفما كانت هذه المنطلقات، نلاحظ أن الحداثة ذاتها، أقرب في شكلها إلى المرأة التي تضع شعرها على وجهها حتى يصعب التعرّف عليها، لكنها تظهر لنا في مظهرها الاقتصادي الذي يتجلّى أساساً في التقنية، أو في مظهرها السياسي الذي يتجلّى في اتساع قرار الدولة واعتماد البيروقراطية في التسيير، أو المظهر الاجتماعي الذي يتجلى في الجمعيات والنقابات ضمن مقاربة تشاركية.
لكن، ماذا عن التمظهر الذي يتحكم في كلّ هذه الوجوه؛ نعني التمظهر الفكري أو الحداثة الفكرية؟ ومن منطلق عربي نتساءل: هل هناك حداثة عربية فعلاً؟
يقول محمد سبيلا في كتابه "مدارات الحداثة" إن أكثر مستويات الحداثة بطئاً هي الحداثة الفكرية. ويذهب المفكر الجزائري محمد أركون إلى أن الحداثة الفكرية تعني الرؤية والمناهج والمواقف الذهنية التي تهيّئ تعقلاً يزداد تطابقاً بالتدرّج مع الواقع. لكن السؤال المطروح هو عن أي واقع يتحدّث أركون، وهو الذي كانت كل كتاباته باللغة الفرنسية ولم تكن موجّهة إلى القارئ العربي.
ظلّ المفكرون العرب - على الأقل حديثي العهد - يتنافسون حول تحديد ماهية الحداثة؛ هل هي "التغيّر؟ هل هي التقدّم؟ أم الشك؟ أم السرابية؟ أم النقد؟ أم العدمية؟ أم اللعب؟ أم التاريخانية؟ أم التشيؤ؟ أم سيادة روح الدهرية؟ أم ماذا؟" كما يقول سبيلا نفسه، متغافلين عن أن أيّ تحديد هو استلاب.
ومن ثم أمكننا القول إن الحداثة العربية هي لا هذا ولا ذاك، بل هي كل هذه المتناقضات، باعتبارها إمكانات ما زالت في طور القوة ولم تخرج بعد إلى طور الفعل، لأن أي حداثة، حسب ألان تورين في كتابه "نقد الحداثة" تتكوّن من تكامل وتعارض بين عمل العقل وتحرير الذات، من توطيد الجذور في جسد جماعي وفي ثقافة. بينما الحداثة العربية ما زالت ترفض أن تسمّي كلمة حديث لعالم لم يعترف بخبرتها الخاصة، لأن الأمر في هذه الحالة سيكون أقرب إلى الاغتراب منه إلى التحديث.
فإذا كانت الحداثة الغربية – كما يقول هابرماس – مشروعاً غير مكتمل، فالحداثة العربية مشروع لم يوجد بعد، أو في أبعد تقدير فإن الوضع العربي ما زال يتهيّأ للحداثة. فحتى أولئك المؤهلون لنقد الحداثة وتثبيت دعائم الحداثة العربية، نجدهم أول من يدعون إلى التقليد من خلال ما يوظّفونه من أفكار في إنتاجاتهم الفكرية، فمثلاً نجد أن فتحي ورشيدة التريكي في كتابهما المشترك "فلسفة الحداثة"، قد أعطيا صبغة عمومية وشمولية لمفهوم الحداثة حيث تركّزت أبحاثه على الأصل والتكوّن والاستتباع في العالم الغربي.
إن الفرد العربي الذي تحدوه رغبة في التقدّم، يتموقع ما بين الرغبة والحنين؛ رغبة في التقدّم وحنين إلى الماضي والخوف على هويته كعربي. فتراه كمن يمشي على جسر فوق نهر، جسر من حبلين [التراث والحداثة الغربية] يمسك في كل واحد بيد، وكل من الاتجاهين يسحبه بأعلى قوته، فإما أن يتخذ قراره نحو التراث فيصير رجعياً في تفكيره، أو يتخذ قراره نحو الحداثة الغربية فيصير مغترباً، وإلا فمن شدّة قوة سحب كليها ستتمزق ذاته.
لعلنا بلغنا نوعاً من الرشد ولو نسبياً، لاتخاذ قرار التخلّي عن هذا الجسر. لا يعني ذلك السقوط ضرورة، وإنما تسريح الذات العربية لتغوص في النهر وتبتل بمشاكلها الخاصة وتنمّي قدرتها على السباحة، فتراكم التجارب والمعارف، في محاولة لتشكيل أرضية صلبة قادرة على حمل كل من أراد الوقوف عليها من أجل التفكير؛ بحيث لا يحتاج للتفكير في التراث إلا كعامل مساعد على فهم حاضره ومحاولة استجلاء معانٍ جديدة، ولا يطلّ على الغرب إلا لترصّد إمكانات جديدة كامنة في العالم العربي وتغفل عنها البشرية، ولم لا تنافس الحداثات الأخرى، تلك هي الحداثة العربية.