عند التاسعة من صباح اليوم الأحد، استؤنف المؤتمر في يومه الثاني بمحاضرة ألقاها المفكر العربي عزمي بشارة، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بعنوان "في أولوية الفهم على المنهج" وقد قسمها إلى جزأين؛ الأول قال إنه نوع من المكاشفة الديكارتية تناول فيه كيف يقارب مواضيعه، فيما استعرض في الجزء الثاني بعض المناقشات الفلسفية حول المنهج.
وأشار إلى أنه عندما يبحث في موضوع ظاهرة اجتماعية، يميّز غالباً بين معالجة مفهوم، أو مصطلح قائم في العلوم الاجتماعية يختزن بينة تحليله لظاهرة ما، موضحاً "كشخص قادم من مجال الفلسفة إلى مجال العلوم الاجتماعية، أبدأ بالمفهوم، أبدأ بالمصطلح، في حين أن الكثير من علماء الاجتماع، والاقتصاد وبقية العلوم الاجتماعية والإنسانية، يبدؤون بالظاهرة الاجتماعية نفسها".
وأضاف صاحب كتاب "المثقف والثورة"، أنه "يتبين من خلال البحث أنه لا فرق، سواء بدأت بمعالجة مفهوم قائم، مثلما فعلت في كتب "المجتمع المدني: دراسة نقدية" أو "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" أو "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة"، ففي النهاية، ستجد نفسك وجهاً لوجه مع الظاهرة الاجتماعية.
ورأى أن "الأفضلية في البدء بالمفهوم، فتلك الأفضلية تسمح لك بنقد ما كان قائماً، ويعطيك زاوية نظر الى الواقع الاجتماعي وشيء تبدأ به، لكيلا تبدأ من الصفر".
وتابع بشارة في محاضرته "غالباً ما أبدأ بتحليل للمفهوم؛ كيف نشأ وتاريخ نشوئه ومقارنته مع الظاهرة الاجتماعية نفسها ومحاولة تأريخ الأفكار تاريخاً نقدياً، والبعض يسمي ذلك منهجاً، أنا لا أسميه كذلك، فهكذا أقرأ بشكل نقدي ودون أن أفكر به كمنهج، وكيف نشأ المفهوم وكيف نشأ المصطلح، ومقارنته مع التطور الاجتماعي التاريخي نفسه، وذلك يعطيك زاوية ممتازة للبدء في الظاهرة الاجتماعية".
وحول المنهج الذي سيتبعه في دراسة الظاهرة الاجتماعية، قال: "لو سألتموني ما هو المنهج الذي سأتبعه في دراسة الظاهرة الاجتماعية، أقول لا أدري، فأنا عندما أقارب ظاهرة اجتماعية ما، لا أدري ما هو المنهج الذي سوف أستخدمه، وأضيف وأقول لا أدري ما هي الفرضية".
وتطرق صاحب كتاب "مقالة في الحرية" إلى الأسلوب المتبع في العالم العربي في البحث، حيث "يبدأ الكتاب غالباً بالفرضية، والباحث يتحدث عن المنهج الذي استخدمه"، وأضاف "هذا ليس أسلوباً للبحث، هذا عملياً قلبٌ لما يفعله الباحث، فالباحث انتهى بالفرضية، ووصل إلى استنتاجات ثم صاغها كفرضية عندما كتبها".
وبيّن "نحن لا نبدأ بالفرضية نحن ننتهي بها، ومخطئ من يدعى أن لديه فرضية جاهزة قبل أن يبدأ بالبحث، ومخطئ من يقول أيضاً إنه يبدأ بمنهج ما، لأن المنهج يفرضه الموضوع، وليس فقط الموضوع بل تفرضه معالجة الموضوع، وعندما تبدأ بمعالجة الموضوع، يتضح بالتدريج، المنهج والذي ستحتاج إليه للفهم".
في الجزء الثاني من المحاضرة، دعا بشارة إلى "تملك موضوع البحث وتفهم قوانينه"، وقال إن "النقد لحدود العلم، تأتي معه محاولة أن ينقى العلم من شوائب أيديولوجية ومن مسلمات، فالنقد يحاول أن ينقي العلم من غير العلم".
وأكّد المفكّر العربي أنّ "منهجَ البحثِ ليس شيئاً جاهزاً إلّا في ما ننسِّقُه وننمِطه من أساليبَ في البحثِ لغاياتٍ مدرسية. فالمهمُّ، وفق بشارة، هو ما نصنَعُه نحن في عملية البحث نفسِها، وهذه العمليةُ هي التي تفرضُ منهجَها بما يتجاوزُ ما يمكن وصفُه بـ "عبادة المنهج" السائدة التي تبدأ في معظم الدراسات العربية تقليديا ببيان المنهج وتحديدِه".
ورأى أنّ "ما يسمَّى عربياً مناهج البحث ويدرّس تحت هذا العنوان، هو أدواتٌ وتقنيات. ولا مانع أن تسمى مناهج طالما فُهم أن المقصود هو أدوات وتقنيات؛ غالباً ما تكون عابرةً للتخصّصات". أما المناهج بالمعنى المستخدم في مقاربة بشارة فهي "مقاربات تحليلية مختلفة وتفسيرات للظواهر الاجتماعية تقدّمها نظريات مختلفة".