هكذا تبدو المغارب من أعلى

06 يوليو 2017
(ساحة جامع الفنا في مراكش، تصوير: يان آرتوس-برتران)
+ الخط -

بصور بانورامية مبهرة، تقبض كاميرا جوية تفاصيل للمدن والشواطئ والجبال والصحاري في المغرب والجزائر، يأخذنا يان آرتوس-برتران، المصوّر والمخرج الفرنسي، في رحلة استكشاف جديدة لمنطقة "المغارب".

فيلمان عنونهما برتران بـ "الجزائر كما تبدو من السماء" (2015)، و"المغرب كما يبدو من السماء" (2017) الذي عرض أواخر شهر حزيران/ يونيو الماضي، كجزء من سلسلة أفلام وثائقية طويلة تعتبر مشروعاً متكاملاً للمخرج.

بدأ برتران هذه الرحلة الجوية الطويلة سنة 1988، عندما أصدر الكتاب الوثائقي المصوّر "فينيسا كما تبدو من السماء"، لتتوالى الكتب تباعاً بعدها، بأجزاء عن باريس وسواحل المتوسط وسواحل الأطلسي، والأرجنتين، وغيرها من بلدان العالم.

تطوُّر تكنولوجيا التصوير الجوي، خصوصاً مع دخول الطائرات بدون طيار (الدرونز) الصغيرة الحجم والتكلفة، وعالية جودة التصوير، حوّل مشروع برتران إلى أفلام وثائقية عالية الجودة، بإبهار بصري لافت، ونصوص مكتوبة بشكل "دقيق" على طريقة المدرسة الفرنسية في إنتاج الوثائقيات.

استطاع برتران تقديم رزمة بصرية غاية في الحرفية، تمزج بين البعيد البانورامي، والقريب الذي يحاول القبض على أدق التفاصيل جمالياً. وهو هنا يستفيد كثيراً من خبرته السابقة كمصور فوتوغرافي جاب العالم لتصوير المدن والصحاري والجبال.

في حلقة المغرب الأخيرة، يستعين برتران، بالإعلامي الفرنسي "ذي الأصول المغربية" علي بادو، ليساعده في الإنتاج التنفيذي، وليكتب له النص المصاحب للفيلم ويقرأه بصوته.

بادو الذي تعود جذوره إلى عائلة مكناسية لعبت ولا تزال تلعب دوراً سياسياً (آخر فروعها ياسمينة بادو الوزيرة السابقة)، يبدو وكأنه يتعرّف على أجزاء كبيرة من المغرب بالموازاة مع الفيلم، في زيارة تحمل من دهشة السائح ومكتشف الأصول، أكثر مما تحمل صورة عن ابن البلد المُعرّف به. ولا يبدو هذا غريباً إذا ما علمنا تاريخ بادو، ذي التكوين الفرنكفوني، والجنسية الفرنسية، والمزاج المغترب البعيد عن واقع البلاد مجازاً وجغرافيا.

بعض المشاهد يقول عنها بادو، إنها "ألهمت في ما مضى عدداً من الرسامين المستشرقين كأوجين دولا كروا"، غير أنه لا يلتفت ربما، إلى كثير من الصور التي حملها الفيلم، ولا تبعد كثيراً عن هذه النظرة الاستشراقية المختصرة للشرق: مسجد وصوت أذان، حلي وصوت غناء، صناعة تقليدية ورعي ولانظام.

يحاول بادو ومخرجه هنا، إعطاء هذه الصور التي قد تبدو لكثير من المتتبعين اختزالية، وصفاً جمالياً (في بداية الحلقة تظهر امرأة عادية، في أحد أسطح بنايات مكناس، وهي ترقص وتلوح بآنية طبخ للكاميرا الجوية)، يدخل بكل سهولة في العبارة المكرورة دوماً "سحر الشرق"، الجامع بين التناقضات. وتظهر هذه التفصيلة الأخيرة، بشكل لافت عندما تأتي مشاهد يتزاوج فيها العصري والتراثي التقليدي.

حلقة الجزائر الأقدم صنعاً، والتي بثت أيضاً هذه السنة قبل أشهر في نيسان/ أبريل الماضي، لم تخل من نفس الصور الانطباعية، والعودة السياحية إلى الجذور، إذ أن الفيلم ساعد في إنتاجه وإخراجه يزيد تيزي الفرنسي ذو الأصول القبايلية الجزائرية.

هنا لم يكن لا يزيد ولا المساعد في كتابة النص جليل لوسبير نصف الجزائري من جهة الأم، قادرين على إيجاد توصيف دقيق من الداخل للبلد، فكل ما حمله الفيلم معلومات تاريخية وجغرافية موسوعية، معروضة على طريقة الدليل السياحي التقليدي، معوّلين كما عوّل المخرج، على قيمة الصور الفنية، وإبهارها البصري، الذي يجعل من النص صورة خلفية مصاحبة ليس إلا.

الحلقتان معاً، أغفلتا عمداً، الواقع المجتمعي والاقتصادي، الكامن وراء هذه الصور "السماوية"، بشكل ربما يناقض المعايير الفرنسية في الوثائقيات، أو لنقل في معظمها. وقد لا يبدو هذا مستغرباً جدا، إذا ما علمنا كيف أن الوثائقيين معاً دُعما مالياً ولوجستياً، من داخل المغرب عبر "المكتب الوطني المغربي للسياحة"، والقناة التلفزيونية الثانية 2M، التي ستبث نسخة عربية للفيلم، وفي الجزائر أيضاً عبر "الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي"، وبث للنسخة العربية على قناة "الجزائرية".

إنها صورة سياحية إذن في المقام الأول، ولا ضير كثيراً في ذلك، خصوصاً إذا ما علمنا أن القناة الفرنسية الثانية منتجة وباثة الفيلمين، حاولت أيضاً في مرات عديدة، وعبر طرق سرية أحياناً، تصوير وثائقيات وحلقات استقصائية عن منطقة "المغارب"، بعضها نجح وتمكن من الظهور، وبعضها الآخر منع من التصوير، واحتجز صحافيوه لأيام.

أما الجهات والقنوات الرسمية فلا تريد ربما إلا هذا النوع من الأفلام "العلوية" والسياحية الجميلة. هكذا إذن، بدت المغارب من أعلى، فكيف يا ترى ستبدو من أسفل؟ إن كان لأحد مصلحة في إظهار الأسفل وإن سمح له بذلك!

المساهمون