حسن توفيق العدل: الضاد في فجر القرن العشرين

12 مايو 2018
القاهرة في بداية القرن العشرين، من فةتوغرافيا لينارت ولاندروك
+ الخط -

سعى الاستشراق الغربي، في نهايات القرن التاسع عشر، إلى جعل الدوارج المَحكية مبحثاً مستقلاً عبر إعطائها صفة الموضوع العلمي "الجاد"، من خلال النظر إليها، لا كـ"لَحنٍ تقترفه العامة في محادثاتها"، بل كسِجلٍ ثانٍ مكتمل، يوازي الفصحى ويناظرها.

وكان الألسني الأميركي شارل فيرغسون (1921-1998)، ومن قَبله المستشرق الفرنسي وليام مارسيه (1872-1956) من بَين أوائل من طبّقوا، للمرة الأولى في تاريخ الألسنية، مفهوم Diglossie على الضاد، ويعني المصطلح: ازدواجية سِجليْ لغةٍ ما، مع وجود تراتبية تفاضلية بين مُستَويْيها: فصيح عال ومبتذلٌ عامي.

وعملت فئة أخرى من المستشرقين، وهم الأكثر إغراضاً، وأحياناً بالتواطؤ مع السلطات الاستعمارية، على تمجيد العامية، بل والدعوة إلى استخدامها عوضاً عن الفصحى، وعدّ هذه الأخيرة ميّتة، لا تصلح أداة للتواصل في العصر الحديث، ولا تعبّر عن نفسية الشعوب العربية وخيالها ووجدانها، فضلاً عن قدرتها على الإشارة إلى أشياء الحداثة ومفاهيمها.

للرد على هذا الموقف الذي يتستّر بلبوسٍ "علمي" زائف، بلور اللغويون العرب مجموعة من الحجج، ومنها اعتبار العامية مجرَّدَ تطوّر دياكروني للفصحى، فجهدوا في رَدِّ كلماتها وعباراتها إلى المتن الفصيح الأصلي.

ولعلَّ أبرز من اعتمد هذا المنهج الأستاذ المصري حسن توفيق العدل (1862 - 1904) الذي ألف كتاب "أصول الكلمات العامية" ونشره في سنة 1898. وقد عَبَّر، في مقدمة تأليفه، عن هذا التوجه بوضوحٍ قائلاً: "كنتُ أجدُ الكلمات التي يَلهج (المصريون) بها إما عربية محضةً، ولكنْ اعتَرى الكثيرَ منها القلبُ والإبدالُ والتصحيف والتحريفُ، أو غيرَ عَربية، وهي التي تناولها العَرَبُ من أفواه القِبط منذ فَتح البلاد (...) والتي أدخلها الدخلاء على اختلاف لغاتهم، والتي جاءت بها الدول التي حَكمت مصر".

وهكذا يحصر العدل مصادرَ العامية في ثلاثةٍ: الفصحى والقبطية، لغة المصريين القدامى، ولغات الأمم التي حكمت مصر أو استعمرتها، كالأتراك والإنكليز وغيرهم. فعقد العزم على تتبّع أصول الكلمات العامية وضبطها، وتوصّل إلى تسجيل 283 كلمة، فألّف منها معجمه هذا الذي رتّبه حَسب حروف الهجاء.

تمثل طريقة عمل العدل في ذكر المُفرَدة العامية، بشكلها المنطوق المتداول لدى "العامة"، ثم استعراض أصلها الفصيح المرجّح، والاستدلال على عراقته بشواهد من "لسان العرب" وكتب النحو ودواوين الشعر، مظهراً ما عسى أن تكون تلك المفردات قد تَعرضت له من تحويرات صوتية ودلالية.

وأما إذا كانت الكلمة مقترَضَةً من اللغات الأوروبية أو من التركية، فيذكر أصلَها الأجنبي المحتمل، ويرسمه بالأحرف اللاتينية، ويرصد ما يمكن أن يكون قد طرأ عليه من تغيراتٍ.
وهكذا، التَزم صاحب "الرحلة الأوروبية"، بهذا المنهج الوصفي مكتفياً برصد تلك التحولات وتتبعها دون إبداء أي حكم قيمي، الأمر الذي يضفي على هذا العمل الرائد سمة العلمية والموضوعية، قبل شيوعها حتى في مدارس أصحابها الأصليين.

ويتألف معجم "أصول الكلمات العامية" من ثمانٍ وستين صفحة فقط، تناثرت فيها عشرات الكلمات التي تصوّر طوراً من أطوار الدارجة المصرية، في نهاية القرن التاسع عشر.

ورغم قصر هذا الكتاب، فهو يعدّ بما تضمّنه من أبحاث موجزة تهم كل مفردة، بدايات أولى لإحياء الفصحى وتنقيتها مما شابها، بغرض ردِّ الاعتبار إليها وتقديمها في صورة الأصل الذي ينبغي أن يُرجع إليه والتقليل من شأن دعوة اعتماد العامية، عبر البرهنة على أن هذه الأخيرة تحريف عن الأولى أو اقتراض من أجنبي.

والأحرى، في الحالتَيْن، العودة إلى الأصل الصافي ومنه الإسهام في النهضة اللغوية، "نَهضة شبابنا الذي شُغِف في إقامة مَعالم الفصحى، وبتقويم ألسنتهم". وهي جهودٌ تليق بـ العدل الذي اشتغل أستاذاً ومترجماً بعد أن تبحّر في الضاد بين أروقة الأزهر وفي مدارج دار العلوم في القاهرة. كما ساعده عمله أستاذاً للعربية، في المدرسة الشرقية في برلين، في تحقيق هذه الأبحاث.

كما ساهم العدل في الحركة الصحافية، فأصدر في برلين، حيث قضى أكثر من خمس سنوات، مجلة "التوفيق المصري"، ثم اختير أستاذاً للعربية في جامعة كمبردج فذهب إليها سنة 1903، وفيها تخرّج على يديه عدد من المستشرقين، كما عُيّن عضواً في الجمعية الآسيوية الملكية، ولم يكن فيها أجنبي غيره. رحل العدل سنة 1904 بشكل مفاجئ، وهو يغادر عمله في كمبردج، ونقل جثمانه إلى القاهرة، تلك المدينة التي حفظَ لها تراثَها المَحكي، رابطاً إياه بالأصول العالية.

المساهمون