لكن الجذور أبت أن تغنّي

26 سبتمبر 2018
(مايزل، أثناء قراءة في"مهرجان شمال ويلز الشعري"، 2015)
+ الخط -

مفكراً في ما لا يمكن الرجوع عنه

لبستْه الغابة. ألقت جذوراً في فمه.
ربطته بالشَعر الميت لأسلافه الصدئين.
بجلدهم المشدود محكماً فوق شبابيك مزعجة.
بأظافر مقصوفة تتعفن في دواليبَ متربة.

ماذا لبس البقية؟
أيّ نسخة من النهر أعطوها للعالم؟
كيف أيقظوا مراكبهم النافقة؟

نفذ الأحياء إلى عظام الميت. أضاءوا
طيوراً خلابة في السماء التي تعلو ذقنه النابتة.
شجعوها على الطيران.

لكن الجذور أبت أن تغني للحب.
الميت قطع ساق نبتته.
ربط عروقه النحيلة حول الأعناق الزاهية للأزهار.
وكأنه لم يعد يريد أن يحتفل.
مع أن هذا موسم أعياد حقاً.


■ ■ ■


ملعقة

لم أزر الأرض قَط في الحقيقة
لكنْ جئتُ إلى هنا فور انتهاء القمة.
المطر يرشّش بجنون في أنابيب الصرف.
هل هو صوت "البورشت" يغلي ساعات متواصلة في المطاعم؟

يدخل الوقت على المشهد كبطل
لكنه يرضخ للإقناع.
إنني متعب حتى الثمالة، مثل كلب
أو رجل.

وهل لم نكن نهرول للقاء أناس
ينبغي أن نحبهم؟ كنا سنُفزع الطيور من أقفاصها
ثم ننبح بسعادة في الشمس.

لكن ألا ترى. ما زال بوسع الإنسان
ألا ينساق إلى حب ما ينبغي أن يحبه.
ليت المطر يهطل ويمحو هذه الجملة.


■ ■ ■


احتفالات - زيارة الموتى - في الخرق

على وشك أن أكتب كتاباً سافلاً، بلا حياء
مقرَّحاً حتى أخمص قدميه -
هكذا اعترف بذنبه.
وجلس ذات ليلة وأمامه قطعة ورق.

كانت في يديه، وجلده، وشعره رجفة.
لم يدق الباب. دخل بالقوة. كفّاه
احتكا بالظلال
لكن لم يغرقاها.
هذا الموسم مخبول.
يمتصنا بلعابه الصمغي.

ماذا يمكن أن يدوم أكثر من غابة؟
الأشجار تحفظ الأدلة:
لقد كانوا. ورقصوا. تصادموا أثناء فرارهم.
وجوههم الحجرية
ظهرت وسط حشود المارة.
أي جيش يمكن أن يقاوم الحشود؟

ظهرت عن بُعد أرض متسخة.
تشاجر مع أعراف الديكة. تشاجر مع الكلاب.
الآن حان وقت تغيير مسار الطيران.
صرخ وأقلع كفراشة.

دخلتنا الأشباح في الليل ترتدي وجوه
طيور خائفة.
مناقيرها موجهة حتمياً إلى النجوم.
ألا تعرف ما يحدث للسمك الميت؟
يصالح الأزهار والحجر.
لي زمن طويل غائب.
وقد تركت رسالة على مسجلك الأبكم.
نويت أن أتصل بك. استغرق الأمر بضع سنين.

أنا وأنت سنكون جوف شجرة عطِرة.
أعرف يا ورقة الشجر. أعرف أيتها الدودة.
هكذا نتخلص من ألقنا النادر.
لكن هنا وسط البيوت، أضواء النيون والحانات
لا تنتظر إجابة. أدخل كلمة السر الخاصة بك. الرقم الشخصي. واخسر.


■ ■ ■


نزاع صلب كعظمة

أود لو أقرّب قدمي أكثر
من الأرض. أن يصيدني شَرَكُها كما تصيد الموتى
الجذورُ. أو الطيورَ أوراقٌ رسمية.

ودَع النجوم السمينة تدور حول الناصية.
دعها تقفز على مفرش أزرق.
دع جسدي يعلق بحلقي.
فكيف يمكن أن يعيش أي واحد وهو غير مكروه؟

على جسدي أن يكون شجاعاً في الحب كما في السباب.
ليته يتحول إلى عظمة صلبة وعاصفة.
ليته ينقرض بطيئاً مثل أنواع الطيور النادرة.

اعتدت أن أكون دافئا كشجرة. ليس
أصغر كثيراً من العالم، مخلوقاً في اليوم السادس.
وقد انتهى الغروب بالفعل.

في فجر اليوم السابع تبدأ الطيور في الصحو.
تعي اتهاماتها.

لو كنت وزناً في كفّة ميزان
لما غطست إلى أسفل.
لرميت شباكا مرتخية بالصيد
ورؤوس سمك من فوق الجسور.
لما أبقيت شيئا لنفسي إلا هذا الخسوف.


■ ■ ■


إصبع يُلعَق

يوم تجري عبر حقل مجمّد.
فاقدا الأثر الذي يواصل الجري بدونك.

تستعر النار في كل أنحاء البيت وتحرق
أماكن شاغرة حيث الريح تموت.
ثم تموت الريح بلا مساعدة من النار.

لحظة يصبح التيار
سريعاً. فيهرب النهر إلى الأمام.

تُترك الضفاف بعيداً في الخلف
وقد أصابها عماء جميل.


■ ■ ■


أعلى وأسفل الصليب

لو بوسعي فقط أن أرى: الأرض وهي تجيش إلى أعلى.
مثل كومة متشابكة من شعر الرأس. أرى
من خلالها على ارتفاع شاهق. أرى
دوائرها تموج
من الغرب إلى الغرب.

أصعد الصليب أحياناً
أنزله. ودائما تقريباً أنزلق. بطريقة ما
أتجنب الجراح التي تجذّرت كالضروس.
لأن النظرة كما ترى لا تدير الرأس إلا حين تكون
مقدسة أو فارّة إلى باطن الأرض.

لو بوسعي فقط أن ألمس: مياه الفيضان في الأنهار.
فائرة في كل مكان كالحليب
من فوق الأرض الجائشة:

من يختبئ منا هناك؟
حين يكونون واثقين من الوصول.
من قلب الصليب نفسه سيأكلون حتى يشبعوا. لتبدأ الألعاب.


■ ■ ■


كل أجزاء الليل

كان هناك ضوء أسفل البار، أسفل الأرضية
جبين القمر ملتصق بالجسد.
وعينا الكلب الميت مذعورتان.
غير أن الكلب يرفض الاستسلام، إنه أحد المارة.

كل هذا في الظلام.
دودة الفجر لم تبدأ بعدُ تتلوى.
إنها جوفاء غائرة. غير صالحة للتشغيل.

عِرْق معوج تحت الجلد راح يتحرك برشاقة.
تختفي الأشكال والقصاصات.
غبش الذاكرة.

الثلج الذائب خارج الشباك ينكر الجسد.


* قلّما يصل الشعر البولندي إلى القارئ العربي ما لم يمر عبر الترجمة الإنكليزية، كما أن الالتفات يقتصر عربياً على شعراء نجوم، خاصة حائزي نوبل شيمبورسكا وميلوش. يعد بارترومي مايزل (1974) من أبرز الأصوات الجديدة في بلده وهو إلى جانب ذلك رحّالة سبق وزار بلداناً عربية وأُعجب بثقافاتها. من إصداراته: "سينقصنا الدم" (1992)، و"أفريقيا البيضاء" (2006) و"الإقامة ليوم في فندق" (2009).

** ترجمة: يوسف رخا

المساهمون