عمّ يبحث محمود الريماوي في مرّاكش؟

29 مايو 2016
(غرافيتي من مرّاكش)
+ الخط -

لا يحضر محمود الريماوي، الكاتب الأردني الفلسطيني، في ذهن قارئه إلا قاصّاً رغم روايتين كتبهما متأخراً. فثلاث عشرة مجموعة قصصية تشهد بإخلاص الكاتب لفن القصّة الصعب، وانتقاله بين أشكالها وبُناها المختلفة عبر أربعة عقود من الزمن.

وإن كان الريماوي في مجموعاته التي سبقت مباشرة "عمّ تبحث في مرّاكش؟" (دار فضاءات، 2016) قد كتب بحياديّة المُراقب غير المُتدخّل، وبلغة مُقتصدة مُتقشفّة مُستلّة من عالم الصحافة والتحرير؛ فإنه في مجموعته الأخيرة هذه، يغادر تقاليده الأخيرة، ويقفز فوق أجيال كتابية ليصير داخل كتيبة القصّة الجديدة، حيث الشخصيات المُلتبسة، والقلق المُنساب بليونة، والأسئلة التي بلا إجابات، والسرد المفتوح على تعدّد التأويلات، والحكاية المرويّة بعدة صيرورات.

يبدأ الكتاب بالتباس مربّع الأضلاع -يحدث في مدينة مرّاكش المغربيّة- بين مؤلف الكتاب محمود، وراوي القصّة محمود، ومضيفه المغربي محمود، وصديق طفولة راوي القصة الذي عاد مع أبويه من أريحا إلى المغرب، بلده الأصلي، وصديق الطفولة ذاك اسمه محمود أيضاً.

عاد محمود (الراوي) ليبحث عن محمود (صديق الطفولة) ليتعثّر أثناء البحث بمحمود (صاحب الدكان)، ويلتبس محمود الراوي مع محمود المؤلف حين تتطابق بعض تفاصيل سيرة الاثنين. أربعة تناسخات هي في واقع الأمر تشكلات الإنسان في الزمان والمكان والظرف المحيط؛ هي مرايا الإنسان وانعكاساته فيها، في آنٍ معاً. محمودٌ مضروبٌ في أربعة، تجلّيات عدّة تتقاطع في لحظة واحدة، لحظة القصة التي يصفها فرانك أوكونر بأنها اللحظة التي تتكثّف فيها كلّ الأزمان.

رحلة البحث هذه لكأنها رحلةٌ إلى الداخل، بحث عن النفس حين تجد نفسها (أو بعضاً منها) في الآخرين (أو بعضٍ منهم). وهذا الواحد (محمود) سيستمرّ في التناسخ والتعدّد في قصص تالية، مرّة يتجسّم لنا على شكل الكاتب الإسباني / المرّاكشي خوان غويتسويلو، الجالس في المقهى على طرف ساحة جامع الفنا، يتصافح معه الرواي للحظة ويجلس إلى طاولة أخرى؛ لكن الزمن السرابيّ، الزمن الشفاف، الزمن الذي تستغرقه "نصف دقيقة" (هي عنوان القصة)، كان زمناً كافياً لتتلبّس روح الراوي جسد غويتسويلو ويُحقق الأول، بواسطة جسد الثاني، حلمه بالتمثيل.

هذا التعدد المتناسخ سيعود مرّة أخرى على شكل ظهور شبحيّ جديد لمايسترو القصة القصيرة، الأرجنيتيني خورخي لويس بورخيس، داخل الفندق الذي نزل فيه ذات زيارة مرّاكشية قديمة، متحدّثاً مع الراوي:

صوت بورخيس الآتي من عالم آخر والخارِج من سماعة هاتف بهو الاستقبال، هو ذاته صوت الداخِل الذي يُسائل الخارِج ويَستجوبه؛ والثلاثة (الكاتب والراوي وبورخيس) صاروا داخل المتاهة، لا نعلم من منهم صنعها، ويتداخل واحدهم في الآخرين إذ يتحركون جميعهم دخولاً وخروجاً من الأمكنة والأحداث بسلاسة متناهية.

وتستمرّ المرايا المتقابلة بعكس الصور إلى ما لا نهاية: ففي قصة "فتح سيرة ملهى مغلق"، يورد الراوي أربع نسخٍ من سيرة الملهى كل واحدة تختلف جذرياً عن الأخرى، ولا تحسم القصة الأمر لصالح أية رواية بل تقود القارئ إلى الشكّ بها جميعاً سارحةً به ليشترك في حسم أمر الروايات التي لن تنتهي بتعدد القراءات.

أما في قصة "الأشجار لا تبوح بالأسرار" يستدعي الريماوي شخوصاً وأحداثاً داخل مخيّلة ممرّض جالسٍ في حديقة رقمية، تخييل مُتعدّد المستويات يتفاقم بتفاعل شخوص مخيّلة الممرّض مع شخوص الواقع المحيط به (الذي صنعته مخيّلة أخرى هي مخيّلة الريماوي).

"عمّ تبحثُ في مرّاكش؟" هو سؤال محمود الريماوي للحظة الراهنة، سؤالنا جميعاً عن لحظة التيه الممتدة كأزل، والفرد الذي تشظى وتفتّت، وصار لزاماً عليه أن ينطلق في رحلة البحث الطويلة التي صادرتها يقينيّات الماضي الكاذبة.

المساهمون