"المدارس الفنية": في تطوّر النظرية والممارسة

26 نوفمبر 2019
(من المؤتمر)
+ الخط -

منذ صعود تيارات ما بعد الحداثة في الفلسفة والفكر والتي تركت انعكاسات عميقةً في الأدب والفنون والعمارة في أوروبا بعد منتصف القرن العشرين، بدأت المراجعات الجذرية لكلّ السرديات الكبرى والأيديولوجيات التي رافقت الحداثة طوال ما يقارب ثلاثئمة عام.

خارج المركزية الأوروبية، لا تزال المراجعات لتلك الحقبة التاريخية حاضرة في العديد من الثقافات حول العالم، لكنها لم تنتقل من طور إلى طور بحسب النموذج الغربي، إذ تشكّلت ممارساتها الخاصة وتطوّرت وفق سياقات اجتماعية وثقافية مختلفة تحتاج منظوراً آخر للتقييم.

تحت عنوان "المدارس الفنية.. تواريخ ومآلات"، افتُتح صباح أمس الإثنين في الدوحة، المؤتمر السنوي الثاني لـ "معهد الدوحة للدراسات العليا"، بمشاركة باحثين وعاملين في مجال الفن يقدّمون سلسلة من المحاضرات والنقاشات في "المتحف العربي للفن الحديث"، وتتواصل حتى غدٍ الأربعاء.

يركّز المشاركون في دورة هذا العام على مؤسسات الفنون الجميلة، والمجموعات الطلائعية الهامشية، التي انبثقت من التطوّرات المتعدّدة في النظرية الفنية، والممارسات الفنية الابتكارية. ومن ذلك، فحص التشكيلات المؤسّساتية التاريخية المتنوّعة للمدارس الفنية، وتشكُّل المجموعات والحركات الفنية حول أفكار جديدة وبديلة.

يستضيف المؤتمر في أيامه الثلاثة متحدثين من فرنسا، والهند، والجزائر، ولبنان، والمغرب، ونيجيريا، وفلسطين، والسودان، وتونس.

افتُتح البرنامج بمحاضرة للشاعر والباحث الهندي رانجيت هوسوكته، تحدث فيها عن "إبراهيم القاضي" الفنان التشكيلي والمسرحي الذي يمثّل وجهاً بارزاً من وجوه مدينة بومباي الكوزموبوليتانية. القاضي بقدر ما هو أيقونة هندية، هو ابن ثقافات متعدّدة؛ فهو سليل عائلة نجدية، وكويتية لجهة الأم، ونال قسطاً من معارفه في بريطانيا.

"ذاتي التعليم ومبادر إلى خلق فضاءات خارج الأكاديمية في عقد الخمسينيات من القرن العشرين"، هكذا يصفه المحاضر، مضيفاً أن ما أبرز اسمه جمعه بين النظرية والتطبيق، وصعوبة تصنيف الحقل الذي ينسب إليه، فإبداعاته امتدت إلى الفن التشكيلي والمسرح الذي يوصف دائماً بأنه أحد آبائه المؤسّسين.

من الهند، إلى المغرب بعيون الباحثة تينا باروتي، طالبة الدكتوراه في تاريخ الفن والعمار في "جامعة بوسطن" الأميركية، وتحدّثت عن "مدرسة الصورة في تطوان المغربية من 1945 حتى الاستقلال".

ركّزت محاضرة الباحثة على جيل فني ذي طبيعة "أخوية" بين إسبانيا والمغرب، وتحديداً في نموذج مدرسة تطوان التي مثّلت جسراً بين الفنّانين على طرفي البحر المتوسّط، بما لهما من تاريخ مشترك، من الأندلس حتى المدارس الفنية الحديثة التي نهل منها الفنانون المغاربة أساليبهم الفنية، في إشبيلية ومدريد على وجه الخصوص.

وتطرقت باروتي إلى الحراك الفني في المغرب حتى حانت لحظة الاستقلال، وتأسّست المؤسّسات الوطنية بقرار ملكي، وطلب من الفنانين المهاجرين السعي للعودة وإثراء المشهد الفني الوطني.

بدوره، تناول الأنثروبولوجي والكاتب اللبناني محمد خالد حرب دور "الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية" (أشكال ألوان)، التي تأسست في منتصف تسعينيات القرن الماضي، مستعرضاً التحولات التي عرفها لبنان، وبؤرته الفنية بيروت، مستشهداً بوصفها "باريس الشرق"، ومقابل هذه الصورة، "مدينة الحرب الأهلية".

تناول ميلاد "أشكال ألوان" عقب انتهاء الحرب، وطرح أسئلة بين ثوريتها الفنية، وإذعانها للسائد الفني الذي تقرّره مؤسّسات الدولة الرسمية، وكيف سيكون دورها أمام لافتات فنية يرفعها غرافيتي يقول "يسقط الفن المعاصر"؟

وحول المؤسسات والإنتاج الثقافي البصري في الممارسات الفنية النسوية التجريبية، تحدّثت الباحثة التونسية هالة الهذيلي بن حمودة عن الاستفاقة النوعية التي تشهدها الحركة الإبداعية النسوية في العالم العربي، والتي من شأنها أن تكتب تاريخ الفن والصناعات الحديثة، بمستحدثات تقنية، وإيحاءات نوعية لأشكال وإشكاليات المنجز المعاصر، وفق تنوّع المواضيع والرهانات التعبيرية.

وأضافت أن الإمكانات الثقافية في الفنون التشكيلية والبصرية المعاصرة، تتعزز اليوم، لتنهل منها المرأة المبدعة من المتغيرات التكنولوجية، والتدفقات الفكرية والتقنية للصناعات البصرية. وتتماهى الحركات الفنية مع متطلبات البناء المؤسساتي، ودورها في تشكيل اللغة الجمالية، وتحديد أفق الانفتاح على الآخر العالمي، لتأثيث الهوية الفنية المحلية، وتخصيبها، ضمن تأكيد دورها الريادي في تكوين الجينات الفنية المتجددة إبداعياً، وتحصينها من مغبة التعميم، وفق قولها.

أمّا موضوع الفنانة والباحثة اليونانية جورجيا كوتريتسوس، فتوجه إلى إدانة إدخال الكم الهائل من المعلومات والصور عبر وسائل التكنولوجيا التي تنتج أفكاراً ضاغطة على خيال الإنسان.

واستغربت المتحدثة من ظاهرة "المتحف الافتراضي" الذي يرهق العينين ويقلّل قدرة الدماغ، والأخطر من ذلك أنه يخلق حاجزاً أمام طبيعة الحركة البشرية، حين تنشأ طريقة متعسّفة للتعامل مع الأعمال الفنية، بعيداً عن روحها الحقيقية.

في محاضرته، تحّدث الباحث وقيّم المعارض الفلسطيني حسني الخطيب شحادة عن "أسوأ إطلالة لأي فندق في العالم". وإذ يبدو العنوان صادماً، فإن الجدار العازل الذي يطل عليه فندق "وولد - أوف" الشهير بفندق بانكسي في بيت لحم حقيقة ليس لسوئها مثيل، في آخر بلاد في العالم ترزح تحت الاحتلال.

غير أن تجربة شحادة التي سلّط الضوء عليها هي اضطلاعه بتأسيس غاليري تجاري خاص، شبابيكه تفتح على الجدار، وتزامن افتتاح الفندق ونسبته للفنان العالمي مجهول الهوية (بانكسي)، الذي تضاربت حوله الآراء في مدى اهتمامه بالفن الفلسطيني خاصة.

يقول شحادة: "كان اسم بانكسي ومشروع الفندق كافياً لاختطاف أنظار الصحفيين" وإطلاق صفة "أسوأ منظر" تذكيراً بالجدار الذي أراد الاحتلال به عزل بيت لحم عن القدس.

تواصل المؤتمر اليوم بجلسات تحمل عناوين "المركز والهامش... تفكيك الثنائيات في المدارس والحركات الفنية"، وتحدثت الباحثة المغربية دنيا بنقاسم عن "الهوية، الثقافة الوطنية، وتفكيك الإرث الاستعماري".

وتناول جوشوا ديفيد جونسالفس "المدارس الفنية: نموذج تفسيري لاستخلاص الاقتصاد الجيوسياسي للفن التجريدي العربي"، وتساءلت فاتن نسطاس ميتواسي من فلسطين: "ما أهمية جامعة للفنون والثقافة في فلسطين؟"، وتحدّثت جمانة عباس (قطر/ فلسطين) عن "ممارسات الإشراف على المعارض في حالات ما بعد الصراع: قصة اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطيني".

المحاضرة الأخيرة للقطري حمد الملا من "معهد الدوحة للدراسات العليا"، وذهب فيها إلى فحص المشهد الفني في قطر، مركّزاً على فقر الأرشيف المؤسّسي والإعلامي الذي يمكن على أساسه تأريخ المدوّنة البصرية القطرية على أساس علمي رصين.

وضرب الملا جملة من الأمثلة حول انطلاق مشاريع فنية كما هي الحال مع "الأصدقاء الثلاثة" قبل عقود، وهم الفنانون يوسف أحمد، وحسن الملا، ومحمد العلي، ملاحظاً أن هذه المجموعة لا تتوافر حولها الكثير من البيانات التي تفيد البحث.

أكثر من ذلك، يفيد المتحدّث بأن ثمّة غياباً لأعمال فنية، يكتفى فقط بوجودها في كتالوغات هنا وهناك. كما تطرّق إلى مسألة الريادة التي تكتفي باستسهال خلعها على بضعة فنانين، دون مواكبة نقدية لروّاد آخرين، خاضوا تجاربهم لاحقاً في مجالات جديدة.

المساهمون