شعر أميركا اللاتينية: هذه حكايتنا

21 أكتوبر 2015
(كالديرون إلى يسار أدونيس، مدينة مكسيكو، 2015 )
+ الخط -

في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، صار هناك 500 مليون شخص يتحدّثون اللغة الإسبانية. اليوم باتت لغة البروثيين (الإسبانية) ثالث لغة انتشاراً في العالم، وتتأرجح بين المرتبة الثانية والثالثة كلغة تواصل عالمية، بعد اللغتين الإنجليزية والصينية. وتنعكس هذه الحيوية بشكل طبيعي في الشعر.

في كل بلد من بلدان أميركا وفي إسبانيا نفسها، وفي الكيبك، مروراً بأوشوايا وبورتْ بُو، ووصولاً إلى كابُو سان لوكاسْ أو في جزر كالاباغوسْ، ينظر الكثير من الشعراء إلى العالم باللغة الإسبانية وينظمون قصيدة عظيمة تعطي استمرارية ما كتب في العصر الذهبي، وعصر الحداثة، وتيار الحركة التجديدية ومن قبل رواد القرن العشرين.

الشعر الحديث المكتوب باللغة الإسبانية هو نتيجة سلسلة من التناقضات الجمالية، وانقطاعات ومطالبات بالرجوع إلى ما هو تقليدي. دَارِيُّو مهّد الطريق أمام الحركة التجديدية وذلك بتكييف النسيج اللغوي (نعومة وكثافة المدلول) للغة الفرنسية إلى الإسبانية: ركّز الاهتمام على ما هو شكلي. ومن المناسب أن نذكر أن النيكاراغواياني كان رائد اللغة العامية عندما كتب "رسالة إلى السيدة لوغونيس" وكان، في الوقت نفسه، هو من عرّف بمارينيتي في لغتنا1. الشيء ذاته قام به خوسي خوان طَابْلاَدَا بسبب فضوله نحو ما هو جمالي: ربط الحداثة بالحركة التجديدية2.

قام شعراء الحركة التجديدية، إلى جانب مساهمتهم في إضافة ميزة تستند إلى الخدعة، والابتعاد عن هالة القدسية، والتضمين في النسق وإبقائه بعيداً عنه، كما أنهم وسّعوا الإمكانيات التعبيرية للشعر، ووسّعوا من حدوده سواء في المواضيع أم في الأشكال. من جانب خيبة أملهم في المواضيع الكبيرة سمح بالتهوين بالمحتويات، ومن جانب آخر، أبدع أشكالاً جديدة من المعاني، على وجه التحديد البحث عن اللاوعي من خلال التلقائية النفسية، والكتابة التلقائية، وكذا الاستعمال المقصود للرمزية التخيلية من أجل بناء خُطب متعددة المعاني.

في الجهة المقابلة، وبسبب تأثير الفنون التشكيلية، اتخذت خطوة إلى الأمام لإتمام حلم فلوبير: تأليف كتاب حول لا شيء3. أوكتافيو باثْ يفسّر الأمر على النحو الآتي: "دُوشامبْ يذهب إلى أبعد من ذلك؛ عند تفكيكه مفهوم العمل نفسه، وضع إصبعه على الجرح: المعنى. كان علاجه علاجاً جذرياً، إذ قام بحل المعنى" (باثْ 11). هكذا إذْ ما من مرة كافح كرمز أمام الظروف التاريخية، من أجل ما هو مناف للمنطق وانحلال المعنى4.

أولاً وقبل كل شيء، أكّدت الحركة التّجديدية، كما أشار إلى ذلك ثيصار أَيْرَا، على ضرورة تجاوز مفهوم "العمل" كغاية. هكذا ظهرت "البنيوية، والكتابة التلقائية، والجاهزة، والاثناعشرية، وتقنية التقطيع العشوائي، والعشوائية، واللاّحسم. لم يؤلّف أكبر فناني القرن العشرين أعمالا، ولكنهم هم الذين اخترعوا طرقا". (إيرا 7).

الحركة التجديدية الأخرى، بزعامة خوسي إيميلْيُو باتشيكو، استفادت من الإبداعات الجديدة في اللغة الإنجليزية. وأخذ سالومون دي لا سيلفا معه إلى نيكاراغوا شعرية وِيتْمانْ، والكتابة المتحررة في الشعر الحر ونبرة الحديث5.

كان الكاتب الدومينيكي، بيدرو إنريكيثْ أُورينيا، في أوائل العشرينيات، مدرّساً للثقافة في المكسيك. وبعد رحلة إلى الولايات المتحدة عاد متأثّراً بشكل كبير من الشعار الجديد  لأدب شمال أمريكا: "الكتابة على منوال العامية". في عام 1924، نشر سلفادور نوفو، بتكليف من الدومينيكي، مختارة معنونة بـ "شعر شمال أميركا الحديث"، وهو عينه ربما، في "القصائد العشرون" التي كتبها، من أدخل هذا الأسلوب في أدبنا. حيث الإقبال على المحادثة، والتخلي عن الغناء6.

في سنة 1911، في مركز للدراسات التاريخية في مدريد، قام ألفونسو رييس، بإعادة اكتشاف غونغورا. وكانت إسهاماته حاسمة ليقوم داماسُو ألُونْسو، وبشكل عام جيل "الـ 27"، بإعادته مرة أخرى إلى الواجهة.  كما أن الانبهار من شعرية القرطبي (تعقيدات نحوية عن طريق تغيير مواقع الكلم واستعمال طريقة تغيير معاني الكلمات مع الميل إلى الاستعارة الغيابية) أنتج تغييراً في الحسية الشعرية الإسبانية: فما كان "واضحاً" في الشعر التقليدي عارضه ما هو "غامض" في الشعر الذي حاول الرجوع إلى ما هو باروكي. خوسي ليثاما ليما، رأس حربة الحركة الباروكية الجديدة (مصطلح ابتدعه أرولدو دي كامبوسْ في "في عمل فنّي مفتوح" سنة 1955)، كان يهتم بصفة خاصة بمكونات النص، واللّعب بالبنية والكثافة اللغوية، في تشكيل عالم جديد من المفردات حيث كثرة اللفظ وطول الزمن الذي يخلق شبهاً مع حالة الهجانة، والتمازج، وغنى تاريخ وطبيعة أميركا اللاتينية. باروكو كفن مكافحة الاستعمار قريب من "العقلية الابتلاعية" لكاتبها أوسوالد دي أندرادي7.

في إسبانيا، أخذ الاهتمام بمكونات اللغة مسارات أخرى: الشعر النقي ثم بعده شعرية الصمت، وهو نوع من التبسيط اللغوي الذي، على حد قول خوسي آنخيل بالينْتي، يُعرف بـ"اختزال الكلام، وعدم كفاية اللغة" (OC.II.87). وتنتشر: "كل خبرة فائقة للغة تميل إلى تحللها" (422). ابتداءً من عشرينيات القرن الماضي إلى غاية الحرب العالمية الثانية، حسب قول كارلوس مونْصِيبَايْسْ، حان "وقت "الشعر الحر"، صوت أدبي مختلف يقدم نفسه كبديل، ومجال معنوي  ينتقي "الغموض" من الشعر الخالص" (سالبادُورْ نُوبُو 68).

أُنْتجَ في القرن العشرين أفضل شعر بعض الكتاب الأساسيين في اللغة الإسبانية8. راج شعر، على نطاق واسع، عوّض القصيدة الغنائية لجيل الـ 27 وشعراء المنفى الإسبان، والشغف بالصورة المدينة للسوريالية، وربما الحركة التجديدية الوحيدة التي دامت، والخطاب المدني أو الملتزم اجتماعياً ذو تأثير ماركسي9. وقفت شعرية هذه الحقبة على رجليها بطريقة ما عام 1956 مع نشر أكبر وثيقة والوحيدة حول طبيعة الشعر المكتوب في الدول الأميركية الناطقة بالإسبانية: "القوس والقيثارة".


هوامش

1 حسب إرنيستو كاردينال، "أول مرة ظهر هذا الأسلوب [العامية] ظهر عند دَارِيُّو، في "رسالة إلى السيدة لوغونيس" (أليماني 14)، التي نشرت عام 1906. من جهة أخرى، في 5 أبريل من سنة 1909، نشر داريو ترجمته للبيان المستقبلي في يومية "لاناثيون دي أرخينتينا" (وقام ماريتيني بنشره في 20 فبرابر من سنة 1909 في جريدة " لوفيغارو" الباريسية). وهكذا، وبطريقة ما، كان النيكاراغواياني المحرك لهذين التيارين الأساسيين للشعر في القرن العشرين: ذروة الحركة التجديدية والنبرة الخطابية.

2 رودولفو ماطا، في إشارة إلى طَبْلادَا، يفسّر الأمر على النحو الآتي: "روحه القلقة، والحريصة على الجدة والمغامرة، ربطت القرن الـ 21 بالقرن الـ 20، من الناحية الجمالية، بطريقة عميقة جدّاً ومتوازنة تخلق إشكالية عند وضعه في فترة ما دون الرجوع إلى الأخرى" (دي كُويُوَاكانْ 15).

3 في رسالة إلى لويس كوليتْ في 16 يناير من عام 1852، كتب فلوبير: "ما يبدو لي جميلاً؛ وما كنت أريد أن أُألّفه هو كتاب حول لا شيء: كتاب بلا صلة خارجية، يتماسك بنفسه فقط بقوة أسلوب داخلية  (...)  أروع المؤلفات هي تلك التي لها مكونات قليلة. أعتقد أن مستقبل الفن سائر في هذا الاتجاه". (لاباسْيُونْ 15).

4 بما في ذلك، منذ سنة 1916، بِثينْتِي وِيدُوبْرُو، إضافة إلى بَايّيخُو ونِيرُودَا، يعتبر واحداً من أعمدة الحركة التجديدية، كان يروّج لذلك بقوله: "قيمة لغة الشعر تكمن بشكل مباشر في ابتعادها عن الواقع". (كُوبُو بُورْدَا11). استمرت هذه الفكرة مع الناقد الأوروغواياني  إِدْوارْدُو مِيلاَنْ  الذي يؤكد أن حتى الكتابة هي في حد ذاتها استحالة. القرن العشرين، بالنسبة له، هو "تجسيد لفكرة انهيار (في الحقيقة  هي فوضى) العالم (...) والتاريخ قد بدأ دخوله في فراغ معنوي" (بْرِيسْتِينَا والحجر الأخير XIII ).

5 أُوكْتَافْيُو بَاثْ، عند تحليله تطور الشعر في اللغة  الإنجليزية كتب أن "إِلْيُوتْ وبُونْدْ في مرحلة أولى كتبا الشعر الحر المقفّى، على طريقة لاَفُورْغْ؛ وفي مرحلة ثانية، رجعا إلى نظام الشطر الواحد والمقاطع الشعرية الثابتة وحينها، وفق ما يخبرنا بوند نفسه، بات أسلوب غُوتْيِيغْ مُحدّداً. تأسست كل هذه التغييرات في شكل آخر: تعويض اللغة "الشعرية"-، أي، اللهجة الأدبية لشعراء أواخر القرن –  باللغة اليومية" (القوس والقيثارة 76).

6 في هذه الحقبة  ظهرت الوجوه الأساسة في الشعر الذي سيعرف في ما بعد بـ "الشعر العامّي" (وسُمّي أيضاً بشعر التخاطب، والواقعية الجديدة، والشعر الرومانسي الجديد، وهلم جرّا) وما اسْتُخلص مباشرة من مكتسبات الجمالية لـ"الحركة التجديدية الأخرى": فرناندو تشاري لارا (1920)، ماريو بنيديتي (1920)، إرنيستو كاردينال (1925)، أنخيل غونثاليثْ (1925)، خايْمِي صَابينِسْ (1926)، روبيرتو فرنانديثْ رِيتَامَارْ (1930).

7 لِيثَامَا يكتب مقاطع مثل: "كنا نعتبر الباروكو (حركة فنية وثقافية هيمنة في القرن 17) كفن مكافحة الاستعمار" ( لا إكسبريسيون 80) أو "كأول أميركي نشأ متمكناً من ثروته كان هو سيدنا الباروكو" (81). مفاهيم ليثاما ستكون أساسة ليس لشرح إحساس جديد فقط وإنما، كما فعل في وقت لاحق كل من أليخو كاربنتيير وكارلوس فوينتسْ، لأخد بعين الاعتبار الهوية وطريقة عيش الأميركيين. قال ليثاما، عند شرح الحالة الأميركية: "نرى هناك أيضاً وجود توتر، كما لو كان في خضم هذه الطبيعة الموضوع، لاستيعاب هذه الغاية من خلال الحجر المثير للجدل، لهذه الطبيعة التي تبدو ثائرة والتي تريد الرجوع كما كانت، والسيد الباروكو كان يريد وضع بعض النظام لكن دون رفض، وانتصار مستحيل حيث يمكن لكل المهزومين أن يحافظوا على متطلبات  كبريائهم وإسرافهم" (83). سبب عملية الابتلاع، كما فسرها أَرُولْدُو دي كَامْبُسْ، هي "رؤية  نقدية للتاريخ كوظيفة سلبية، والتي هي قادرة على الاستيلاء والتفويت، وتغيير المراتب، والتفكيك" ( لا رَّاثُونْ 4). هذه العودة إلى الباروكو وفقا لكامبُسْ تتغدى من سبب عملية الابتلاع، ويعرض بطريقة أو بأخرى الحركية التي تَبعَتْ عملية التّهجين المستمرة للشعر والكتابات اللاتينوأمريكية في القرن ال20 وبداية القرن الـ 21: "الكتابة اليوم في أميركا اللاتينية ستعني كل مرة، إعادة كتابة، واجترار" (23).

8 ظهرت في هذه السنوات بعض النصوص الكلاسيكية في لغتنا، نصوص مارست تأثيرها على شعراء آخرين وعلى تلقي الشعر، مثل نص "ليليّ وأحلام أخرى" (1949) لفرناندو تشاري لارا، و"القصيدة الشاملة" (1950) و"قصائد (غنائية) أساسة" (1954) لبابلو نيرودا، و"أُورالْ" (1950) و"القلق" (1956) لخايمي صابينيسْ، و"عادات خاطئة أو كروية الأرض" (1951) لإنريكي مولينا، و"اليد العظمى" (1951) و"من الجذور ومن السماء" (1958) لخوان أورْتِيثْ، و"حتى النخاع وأكثر"(1953) لأوليبيرو خيروندو، و"تخليص الذكرى" (1953) لإدواردو كوطي ليموسْ، و"دوائر الرعد" (1953) لبثينتي خيرباصي، و"قصائد وأضدادها (شعر عامي)" (1954) لنيكانور بارا، و"العالم القاسي" (1956) لأنخيل غونثاليث، و"نجمة في العلى وقصائد جديدة" (1956) لإفرايين ويرتا، و"كلمات في راحة" (1956) لعلي تشوماثيرو، و"الشياطيين وأيامهم" (1956)، و"البُرْدة والتاج" (1958) لروبن بونيفاث نونيو، و"كم أعرف عن نفسي" (1957) لخوسي يرو، و"رفقاء سفر"  (1959) لخايمي خيل دي بيِيدْمَا، و"الواهب" (1960) لخوصي لثاما ليما و"حرية رهينة كلمة" (1960) أوكتافيو باث.

9 أحدثت الحرب الأهلية الإسبانية نهضة في الشعر الاجتماعي في لغتنا. هجرتْ بطريقة ما النبرة الساخرة التي كانت ترافق النقد الاجتماعي وتبنّت نبرة نضالية مكافحة. ففي الحالة الأميركية، كان كل من بابلو نيرودا وراوول غونثاليث تونيونْ قدوة لكتاب ينتمون إلى أجيال أخرى مثل إرنيستو كاردينال، وروكي دالتون وخوان خيلمان، على سبيل المثال لا الحصر لأكثرهم تمثيلاً لهم. في إسبانيا فقد تميز كل من غابرييل ثيلايا وخايمي خيل دي بييدما بالتزامهم. وجدير الإشارة إلى الأهمية الكبيرة للفوقواقعية (السريالية) في هذه السنوات. يشير خوسي أوليفيو خيمينيث في مختارته "الشعرية الإسبانوأمريكية المعاصرة" 1914-1970 إلى أن "الواقعية، بجرعات مختلفة، خدمت المتساميين والوجوديين: كما خدمت أيضاً شعراء اجتماعيين وسياسيين، وحتى أن شعراً كثيراً ذو فكرانيات (أيديوليوجيات) مختلفة ألوانها ذابت في خطاب الواقعية" (24).


(الجزء الأول من دراسة تُنشر على أربع حلقات يوميّاً في "العربي الجديد")

* Alí Calderón شاعر وناقد وأستاذ جامعي  من المكسيك، مواليد 1982.

*  ترجمة عن الإسبانية محسن بندعموش


اقرأ أيضاً: علي كالديرون.. الإسبانية لغة الفقراء

المساهمون